يمر الإنسان بعدة مراحل من عمره الذي ربما لا يتجاوز القرن من الزمن في أعلى التقديرات؛ طفلاً فيافعاً فشاباً نشطاً فكهلاً ناضجاً فعجوزاً خرِفاً.. وهكذا.

وكذلك المجتمعات أيضاً تمر بمحطات ومراحل وتجارب وتغيرات ديموغرافية واقتصادية، بحكم طبيعة المكان وظروف الزمان وعالم الطبيعة وتغيراته المناخية المختلفة ،حيث إن للبيئة تأثيراً فعلياً على حياة الأفراد والمجتمعات التي تسكن المكان بتربته ومناخه وتضاريسه.. فتتأثر بذلك كله، فالبيئة هي حاضنة كل الأحداث التاريخية والاجتماعية والاقتصادية على مر الزمن.

إن الإنسان يتأقلم ويندمج ويتناغم وينسجم مع بيئة المكان الذي يعيش فيه. إن التغييرات الديموغرافية والاجتماعية والسيكولوجية تمر على الإنسان بشكل تدريجي سلس دون أن يشعر بصدمة التغيير المفاجئ، وهذه طبيعة الكائن الحي. لكن ما حدث لبعض المجتمعات العربية، خصوصاً بعد ما سُمي «الربيع العربي» الذي عصف بالبلدان، ونسف القيم، وجرف الأخلاقها، وأثر على تصرفات الأفراد وسلوكهم، بعد أن أدى لتحطيم بعض هذه البلدان وتمزيقها وتشريد أهلها، وتدمير اقتصادها، وكاد يفعل بالبعض الآخر من هذه البلدان.

إلا أن التغييرات السريعة والعنيفة في بعض هذه المجتمعات، أدت لظهور فئات جديدة غريبة الأطوار وسريعة التلون، حتى لكأنها انسلخت من ثقافاتها العربية الأصيلة وقيمها الدينية والوطنية التي طالما ظلت راسخة، وأدت دوراً مهماً في الدفاع عن الأوطان، وحماية مكتسبات المجتمعات على نحو ثابت لا يتزحزح.

وقد ظهرت بعض الأصوات النشاز التي تريد تدمير دولها، والتنكر لتاريخ مجتمعاتها والتآمر على أبناء جلدتها.. متناسين التاريخ المضيء لهذه البلدان التي نشأوا وتربوا فيها وتعلموا في مدارسها وهم براعم صغار، ومشوا على ترابها الذي هو تراب الآباء والأجداد الذين كانوا أوفياء ومخلصين وصادقين في التعامل مع الوطن وأهله، حتى ولو لم تعجبهم أنظمته السياسة، إلا أن الوفاء والحياء والصدق والانتماء الحقيقي والشعور الطاغي بالولاء لدينهم.. كل ذلك ظل يمنع الكثيرين ويردعهم عن الارتماء في أحضان الأجنبي المتآمر أو الغازي المحتل، رافضين أن يكونوا مطية للخارج، أو أداة لغزو ونهب أوطانهم واستباحة ترابها.

ما نشاهده ونلاحظه اليوم من بعض النخب في بعض الدول العربية الأصيلة العريقة التي تعرضت للاحتلال والغزو والشتات، أمر مثير للاستغراب والتعجب، خاصة حين نجدهم يدافعون عن الغزاة أكثر مما يدافعون عن تاريخ بلادهم واستقلالها وسيادتها، كما نتفاجأُ منهم وهم يبرون الغزو ويجدون له أكثر من سبب ومسوغ، متقدمين في ذلك على المحتل الأجنبي نفسه، فيلمّعونه أكثر مما كانوا يلمّعون كتبهم المدرسية التي يقرؤون فيها مادة التربية الوطنية، ويسمحون لأنفسهم أن يكونوا خدماً للغزاة ضد المصالح القومية والاستراتيجية لأوطانهم التي كانت حرةً وأبيةً وآمنةً ومستقرةً، قبل أن يكونوا هم عوناً عليها للمحتل والغازي. لقد فقدت تلك البلدان بريقها وعنفوانها وأمنها واستقرارها، وهاجر طير الحمام الذي كان على ظهر أسطح منازل سكانها، كما طار الحياء والخجل من وجوه بعض أبنائها الذين اختاروا لأنفسهم ذلك الدور، فأصبحوا بلا أخلاق، لا وطن ولا انتماء.. أصبحوا وجوهاً ممسوخة ترتدي أكثر من قناع مزيف وكمام ملوث، حسب الأجواء والرغبة والمصلحة الآنية!

*كاتب سعودي