إليكم ما نعرفه عن واقع المشهد السياسي الأميركي اليوم: الحزب الجمهوري عالق، ربما على نحو لا رجوع فيه، في دوامة غريبة. وإذا لم يُعِد اقتحامُ مبنى الكونجرس الذي حرّض عليه ترامب الحزبَ إلى الرشد والصواب –وهو ما لم يحدث- فلا شيء سيعيده بكل تأكيد.

ما هو غير واضح بعد هو مَن الذي سينتهي به الأمر إلى الهلاك. هل هو الحزب الجمهوري كقوة سياسية مهمة، أم أميركا كما نعرفها؟ للأسف، لا نعرف الجواب. وهذا الأخير يتوقف كثيراً على مدى النجاح الذي سيحققه الجمهوريون في كبح الأصوات خلال الانتخابات. والواقع أنه حتى أنا كانت لدي بعض الآمال المتبقية في أن مؤسسة الحزب الجمهوري قد تحاول إنهاء الترامبية.

لكن هذه الآمال ماتت في الأيام الماضية الأخيرة، حيث صوّت ميتش ماكونل، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، الذي سبق له أن قال إن دور دونالد ترامب في التحريض على التمرد يستوجب العزل، لصالح قرار كان سيعتبر محاكمة ترامب غير دستورية لأنه لم يعد في المنصب، وهو رأي يختلف معه معظم الخبراء والفقهاء الدستوريين. كما قام زعيم الأقلية «الجمهورية» في مجلس النواب –الذي لم يعترف بعد بأن جو بايدن فاز بالرئاسة بطريقة شرعية، ولكنه أعلن أن ترامب «يتحمل المسؤولية» عن الهجوم على الكونجرس– بزيارة منتجع «مار آ لاغو» (حيث يقيم ترامب) من أجل إصلاح ذات البين.

وبعبارة أخرى، فإن قيادة الحزب الجمهوري الوطنية، وبعد أن أعملت العقل والمنطق لفترة قصيرة، استسلمت لتوهمات الهامش وتخيلاته في نهاية المطاف.. وبذلك ينتصر الجبن. فكيف حدث هذا لما كان ذات يوم حزب دوايت آيزنهاور؟ علماء السياسة يرون أن قوى الاعتدال التقليدية أُضعفت من قبل عوامل مثل تأثير النزعة القومية على السياسة وصعود الإعلام الحزبي المتعصب، لاسيما «فوكس نيوز».

وهذا يفتح الباب أمام عملية تطرف ذاتي يقوّي فيها التطرف نفسه بنفسه. ذلك أنه حين يسيطر المتشددون على السلطة داخل مجموعة ما، يعملون على إخراج المعتدلين منها، ومَن يتبقون من المجموعة أكثر تطرفاً، إذ يعملون على طرد مزيد من المعتدلين وإخراجهم، وهكذا. حزب يبدأ بالاشتكاء من أن الضرائب مرتفعة جداً، وبعد فترة، يبدأ في ادعاء أن تغير المناخ ليس سوى خدعة كبيرة، ثم ينتهي به الأمر في الأخير إلى الاعتقاد بأن كل «الديمقراطيين» عبدة الشيطان ويعتدون على الأطفال جنسياً! والواقع أن عملية التطرف تلك بدأت قبل قدوم دونالد ترامب بفترة طويلة، وهي تعود على الأقل إلى سيطرة نيوت غينغريتش على الكونجرس في عام 1994.

لكن فترة حكم ترامب التي تميزت بالخداع، متبوعةً برفضه الاعتراف بهزيمته ومحاولته قلب نتائج الانتخابات، جعلت الأمر يبلغ درجة غير مسبوقة من السوء. ثم أكمل جبنُ المؤسسة «الجمهورية» الصفقةَ. لينفصل بذلك أحد الحزبين السياسيين الرئيسيين في أميركا عن الحقائق والمنطق والديمقراطية، إلى غير رجعة. ولكن، ماذا سيحدث بعد ذلك؟ قد تعتقد أن حزباً يستبد به الغضب ويفقد السيطرة على نفسه أخلاقيا وفكرياً سيجد نفسه أيضاً غاضباً وفاقداً السيطرة على نفسه سياسياً. وهذا حدث بالفعل في بعض الولايات في الواقع. غير أنه من غير الواضح تماماً أن ذلك سيحدث على مستوى وطني أيضاً.

صحيح أن «الجمهوريين» خسروا دعماً واسعاً مع ازدياد تطرفهم، ذلك أن الحزب الجمهوري لم يفز في التصويت الشعبي في الانتخابات الرئاسية سوى مرة واحدة منذ عام 1988، وكان عام 2004 حالة خاصة تأثّرت بتداعيات هجمات 11 سبتمبر الموحِّدة للأميركيين.

غير أنه بالنظر إلى الطابع غير التمثيلي لنظامنا الانتخابي، يستطيع «الجمهوريون» الوصول إلى السلطة رغم خسارتهم في التصويت الشعبي. فأغلبية الناخبين رفضوا ترامب في 2016، لكنه أصبح رئيساً على كل حال، كما أنه كان قريباً من الفوز في 2020 رغم عجز يبلغ 7 ملايين صوت. وفضلاً عن ذلك، فإن مجلس الشيوخ منقسم بالتساوي على الرغم من أن الأعضاء «الديمقراطيين» يمثّلون 41 مليون شخص أكثر من «الجمهوريين». والأدهى أن الرد «الجمهوري» على الهزيمة الانتخابية لم يكن تغيير السياسات من أجل كسب دعم الناخبين، وإنما محاولة تزوير الانتخابات، كما حدث في ولاية جورجيا التي طالما اشتهرت بالكبح الممنهج للناخبين السود، والذي تطلب جهداً تنظيمياً كبيراً من قبل «الديمقراطيين» بزعامة ستايسي أبرامز، من أجل التغلب على ذلك الكبح والفوز بالأصوات الانتخابية في الولاية ومقعدي مجلس الشيوخ الشهر الماضي. ولهذا، فإن «الجمهوريين» الذين يسيطرون على الولاية يضاعفون جهودهم الرامية إلى منع الناخبين من التصويت من خلال مقترح جديد يشترط بطاقة الهوية وشروطاً أخرى للحد من التصويت.

وخلاصة القول، هي أننا لا نعرف إن كنا قد حصلنا على أكثر من استراحة مؤقتة. فالرئيس الذي حاول الاحتفاظ بالسلطة رغم خسارته في الانتخابات أُحبط. لكن حزبه الذي يصدّق نظريات مؤامرة غريبة وينكر شرعية معارضته لا يزداد تعقلاً، ومع ذلك، لديه فرصة جيدة للسيطرة على السلطة بشكل كامل بعد أربع سنوات.

*أكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»