هناك مدن أو قرى بعينها أصر على زيارتها، بل يقتلني الفضول إن لم تتحقق أمنيتي برؤيتها، هي مدن أو قرى أو مسقط رأس الأدباء والمفكرين والفنانين الكبار سواء في العالم العربي أو أوروبا أو في بقية بلدان العالم بقاراته، من هذه المدن التي أغرمت بها صبياً مدينة لاسمها رنين، ولحضورها وقع إيقاع مختلف، هي «مَعَرّة النعمان» في سوريا، موطن شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء، «أبي العلاء المعري»، وإليها ينتسب، مدينة هادئة وجميلة أيقظتها الحرب، وخربها الاقتتال، ولم يسلم منها «رأس أبي العلاء»، وأيّاً يكن الفاعل؛ فرداً من جماعة أو جماعة منسلخة من جماعة أو فرقة متشددة أو عصابة تريد اغتيال رموز التاريخ والحضارة أو نظاماً يريد قلب الحقائق، أيّاً يكن الفاعل فكل الذي قدر عليه أنه تجرأ آثماً، وتشاطر منتفخاً بالهواء على تمثال يذكّر الناس بجميل صنع وعبقرية هذا المبدع والمنتمي لمدينته معرة النعمان، وقام بجز رأسه، ذلك الرأس الذي أشقاهم، وسفَّه رؤوسهم التي يحملونها على أكتافهم منذ التاريخ البعيد، ورآهم على حقيقتهم ببصيرته لا ببصره الذي افتقده، وهو يحجل صغيراً إثر مرض الجدري الذي غيب النور عن العين، فزاده في القلب والعقل.
في وقت من الزمان كان المتبادي إلى معرة النعمان لا يدخلها إلا ويريد أن يلقي السلام على الشيخ الضرير، ولا يمكن أن يغادرها دون أن يودع فليسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة بكلمات هن مثل الدعاء والرجاء، واليوم حينما يدخلونها مسلحين فأول القتلى الأبرياء «أبو العلاء»، الساكن على قاعدة رخامية، بجلبابه البني المعصفر، وعمامته، فقد ثقَّبوا التمثال برصاص بائر في مخازنه، وأنزلوه من عليائه، وقطعوا الرأس، ولعلها ليست أول مصائب «أبي العلاء» مع هؤلاء النزقين والغرباء، فقد حاربوه حيّاً، ورموه بالزندقة حينما لم يقيّموا كلامه، ولم يستوعبوا فلسفته، فما أسهل الرجم، وإلقاء الحجر في وجه الآخر، وما أصعب الاعتراف بالخطيئة! لقد جاء هؤلاء المحتسبة يريدون أن يحاكموا «أبا العلاء» بجنحة التكفير، لا منطق التفكير، وقد كان عصره ومجايلوه أوسع مدارك، ومعارف، وفضاؤهم أكثر حرية وفكراً وجدلاً، أما أتباع «محاكم التفتيش الديني الجدد» فهم سلاح بلا فكر، ورأس بلا وعي، لهم أرجل يمشون بها، وعقول لا يفكرون بها، هم مدارس الحفظ والنقل، والتلقين والتدوين، كلهم درسوا «المعري» في مدارسهم، لكن تسبقه جملة «أعوذ بالله»، وتتبعه جملة «لعنه الله» حينما يخلون بمرشديهم وأوصيائهم وناقعي الحنظل فيهم، فيغوونهم، وهم يعتقدون أنهم يسلكون بهم سبل الرشاد.
لا يمكننا إلا أن نعد المعري من شهداء الثورة السورية، ولقد كان في حياته ثائراً في وجه الدنيا، ووجه المتملقين والمتفيقهين، وأرباب المصالح، وفاقدي الخلق والمروءة، نبغ في الشعر وهو ابن أحد عشر عاماً، واعتكف ولزم الدرس حتى بلغ العشرين، وبلغ شأناً في اللغة والأدب والمعارف، جده كان قاضياً، وأبوه من المبرزين علماً وأدباً، وكذلك أعمامه وأخواله، وأخوه شاعرٌ زاهدٌ، لكن العبقرية انحازت لأبي العلاء وبزّهم جميعاً، يعد من شعراء الإنسانية، وتراثه الأدبي يرقى للعالمية، عاش زاهداً، معتكفاً، ومتأملاً، متفكراً في شؤون الخلق والزمان والإنسان.. كان يقول:
«اثنان أهل الأرض، ذو عقل بلا دين، وآخر ذو دين لا عقل له»!
كم هي حزينة «مَعَرّة النعمان» لخرابها، وللاعتداء على ابنها البار الشيخ الضرير، صاحب رسالة الغفران!