قضية «سد النهضة» باختصار تتعلق بإحدى عشرة دولة تتشاطأ حول أطول نهر في العالم (6700 كيلومتر) وهو نهر النيل المسؤول عن تأمين الماء لمئات الملايين من البشر تعتمد حياتهم عليه في هذه الدول. ونخص بالذكر هنا دولتي المصب: جمهورية مصر العربية التي تعتمد اعتماداً كبيراً (بنسبة 97%؜) على النيل في أمنها المائي، وجمهورية السودان.

وفيما يعتقد البعض بأن حل الخلاف يكمن في تقسيم حصص المياه بالتساوي بين الدولتين من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى، فالقضية على أرض الواقع أكثر تعقيداً وتشعباً من مجرد تقاسم المياه.
وقد تبلور الخلاف بين مصر وإثيوبيا في عام 2011 حين أعلنت إثيوبيا بناء سد النهضة بتكلفة إجمالية تصل خمسة مليارات دولار، ليصبح السد الأضخم على مستوى القارة الأفريقية بسعة تقارب 74 مليار متر مكعب. وهذه الكمية المهولة من استنزاف مياه النهر تساوي حصتي مصر والسودان، مع العلم بأن مصر ووفق معايير الأمن المائي الدولي تعاني من نقص حاد في المياه حد الفقر.

ومن المهم أن نتذكر أن إعلان بناء السد جاء متزامناً مع الأوضاع السياسية المتوترة في مصر إبان اضطرابات «الربيع العربي» وأحداث 25 يونيو 2011، لذا لابد أن نشير إلى الاستغلال الواضح لتلك لأحداث من الجانب الإثيوبي في الوقت الذي لا تشكل فيه المياه قضية بالنسبة لإثيوبيا، فبناء السد ليس من أجل الأمن المائي في المقام الأول، إذ أن إثيوبيا ذات مناخ ماطر نسبياً، بل من أجل توفير الطاقة الكهربائية (بقدرة متوقعة تصل 6500 ميغاوات) لمائة مليون نسمة على أرض إثيوبيا وإنعاش اقتصادها الذي بدأ ينمو ويزدهر خلال السنوات الأخيرة. وبعد تنصل إثيوبيا من المعاهدات الموقعة بينها وبين مصر، وبعد أن أصبح السد واقعاً لا مفر منه، اتخذ الخلاف منحى أكثر تعقيداً يتعلق بحق مصر في اشتراط قواعد لفترة ملء السد وكيفية تشغيله.

فمصر تطالب بأن تمتد فترة ملء السد إلى عشر سنوات، مع الأخذ في الاعتبار سنوات الجفاف بحيث يتوقف خلالها ملء السد، بينما تتمسك إثيوبيا بأربع إلى سبع سنوات وذلك بدلاً من سنتين إلى ثلاث سنوات، وتعتبر ذلك حقاً سيادياً لها دون الاكتراث بانعكاساته على مصر والسودان ودون الاكتراث بالتصعيد مع دولة بحجم مصر. وفي يوليو 2020، ورغم حضّ مصر والسودان إثيوبيا على تأجيل خططها لملء خزان السد حتى التوصل إلى اتفاق شامل، أعلنت الحكومة الإثيوبية أنها أنجزت المرحلة الأولى من ملء الخزان.

منذ عام 2011، تتفاوض مصر والسودان مع إثيوبيا للوصول إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة الذي تبنيه أديس أبابا ليصبح أكبر مصدر لتوليد للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، دون أي تقدم يذكر في هذه المفاوضات مقابل إصرار إثيوبي على الملء الثاني في شهر يوليو القادم، مما اضطر مصر وللمرة الرابعة إلى اللجوء لمجلس الأمن محذرةً من مغبة إقدام إثيوبيا على الملء الثاني أحادياً ودون الاتفاق مع دولتي المصب.

وبالعودة قليلاً إلى التاريخ، ففي عام 1929 وقّعت مصر والسودان الذي كان خاضعاً للحكم البريطاني آنذاك اتفاقية تمكن مصر من حق النقض لأي مشروع يُقام على نهر النيل ويؤثر على حصتها من مياهه. وفي عام 1959 وقعت مصر والسودان اتفاقية تمنح مصر 50%؜ من مياه النيل.

وخلال تلك الحقب لم تقدم أي من دول المنبع على خرق الاتفاقية بإقامة أي مشروع على نهر النيل دون الرجوع إلى مصر، حتى عام 2011 الذي تم فيه خرق الاتفاقيات والحقوق الممنوحة لمصر، ببناء سد النهضة تحت مبررات سيادية من قبيل أن السد على أراض إثيوبية وبمسوغات لا تعترف بالاتفاقيات المبرمة خلال الحقب الاستعمارية، وهي ذات الاتفاقيات التي منحت إثيوبيا أراضي بني شنقول وغيرها.

فهل ينفد صبر مصر بعد هذا التصعيد الذي استمر لعشر سنوات لتدارك ملء ثالث ورابع؟ وهل الحلول الاستراتيجية والعسكرية مطروحة إزاء هذه المعضلة التي تشكل قضية وجودية لمصر تمس أمنها القومي؟ وهل انتقلت مصر من مرحلة المفاوضات إلى مرحلة التكتيك السياسي من خلال توقيعها عدة اتفاقيات دفاعية مع دول الطوق؟! من المهم التوصل إلى تسوية شاملة للأزمة تضمن مصالح الجميع بما يحقق التنمية ويحافظ على الاستقرار في حوض النيل.


*كاتبة سعودية