قبل قرنين توفي الإمبراطور الفرنسي الأسطوري «نابليون بونابرت» في جزيرة القديسة هيلانة منفياً بعيداً عن بلاده التي رفع اسمها في كامل أوروبا وفي العالم كله، ضابطاً محارباً ثم إمبراطوراً حاكماً. وقد احتفلت فرنسا مؤخراً بالمائوية الثانية لوفاة بونابرت، الذي يمثل حالة فريدة في الوعي الجمعي، فهو من جهة مَن انقلب على الثورة وعلّق تجربة الحراك الشعبي، لكنه من جهة أخرى طوّر النظام الإداري وأصدر القوانين المدنية ووطد المنظومة التعليمية، وفوق ذلك كله نشر أفكار التنوير والثورة الفرنسية في أوروبا التي سيطر عليها عسكرياً بالكامل قبل هزيمته الشهيرة في مدينة واترلو البلجيكية.
ما يهمنا في مسار الرجل الذي سمّاه الفيلسوف الألماني هيغل عند دخوله مدينة «ايينا» البروسية «روح العالم»، هو حملته الشهيرة إلى الشرق التي تركزت في مصر سنة 1798، وهي بالنسبة لعموم المؤرخين بداية «صدمة الحداثة» في المشرق العربي.
حمل نابليون مئات الباحثين والعلماء إلى مصر وأسس المعهد العلمي على غرار نموذجه الفرنسي، وأنشأ التقاليد الحديثة فيها، وبنى المنشآت المدنية الجديدة، وأدخل المطبعة بحروف عربية، وأصدر الصحف الإخبارية والمتخصصة، وكانت حصيلة الحملة كتاب «وصف مصر» المكون من عشرين مجلداً.
ومع أن المغامرة الفرنسية في مصر لم تتعد ثلاث سنوات، إلا أنها تركت آثاراً مكينة في بلاد النيل وفي المشرق العربي بكامله.
ولا شك في أن أهم إنجاز لنابليون في تجربته المصرية هو بلورة المفهوم الحديث للوطنية المصرية في مكوناتها الفرعونية وهويتها المتوسطية، ضمن منظور حضاري يربط بقوة بين الإرث الفرعوني والجذور اليونانية الرومانية للغرب الحديث.
بعد خروج الجيش الفرنسي من القاهرة، اضطلع حاكم مصر العثماني محمد علي باشا بتحقيق مشروع نابليون في خلفياته وخطواته التفصيلية. ومن المعروف أن محمد علي أصدر القوانين الجديدة وأصلح مؤسسات الدولة، العسكرية والإدارية، بإشراف مستشارين فرنسيين، كما أرسل البعثات التعليمية إلى فرنسا وعمل على نشر أفكار الأنوار والتحديث في البلاد.
يذكر لنا المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي أحداث الحملة النابليونية وما تخللها من تطورات جسام ومعارك هائلة، ويرصد بعين الملاحظ الحصيف التحولات العميقة التي عرفها المجتمع المصري بعد دخول الفرنسيين. ولقد عاش الجبرتي في حقبة الوالي العثماني محمد علي باشا وتولى الإفتاء في عهده، وفهم العلاقة العضوية بين المشروع النابليوني ومنعرج الإصلاح والتحديث الذي انطلق مع القائد المصري.
صحيح أن النخب العثمانية العربية حملت لواء المشروع القومي العربي وطرحته خياراً بديلاً عن الرابطة العثمانية، لكن مشروع الوطنية المصرية في نزعتها الفرعونية وتوجهها المتوسطي الأوروبي ظل هو الإطار الناظم للهوية السياسية المصرية في عصر الدولة العلوية (نسبة لمحمد علي باشا).
ولعل آخر صياغة نظرية لهذا المشروع هي كتاب المفكر والأديب المصري طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر عام 1938 والذي ألفه في إطار النقاش السائد أوانَها حول المرجعية التاريخية والحضارية للأمة المصرية. لقد كان كتاب طه حسين رداً ضمنياً على النزعة العروبية الصاعدة أوانها في مصر من حيث أطروحتها حول الهوية المشرقية لبلاد النيل عبر بوابتيها البحرية والصحراوية على الجزيرة العربية وبلاد الشام.
هل كانت حملة نابليون محطة تأسيسية لحقبة التحديث والتنوير في الفكر السياسي والاجتماعي العربي وبصفة خاصة في مصر، أم كانت بداية عهد كامل من السياسات الاستعمارية والغزو الثقافي والهيمنة الحضارية بالإكراه والغلبة؟
لا يزال السؤال مطروحاً بقوة في الأدبيات العربية بعد مرور قرنين على الأحداث التي غيّرت خريطة المنطقة ووجه العالم كله. لقد فشل المشروع الاستراتيجي الفرنسي في الشرق إثر هزيمة نابليون في الشام، في حين نجح المشروع الإنجليزي المنافس بالسيطرة على طريق الهند، إلا أن الجانب التنويري التحديثي من مشروع نابليون تحقق في صيغة التجربة النهضوية الحديثة التي أصبحت مصر محوراً لها ونقطة انطلاقها إلى عموم العالم العربي. وبعد خمسين سنة من حملة نابليون تحقق طموحه في شق قناة السويس في عهد الخديو محمد سعيد باشا وبدعم فني فرنسي، فتحولت مصر إلى جسر للتواصل والانتقال بين القارتين الأوروبية والآسيوية.
حاصل الأمر، إن ما بقي من مغامرة نابليون هو جانبها الفكري والثقافي، لا تجارب الحرب والغزو الفاشلة. لقد قال نابليون نفسه: «إن العالم توجد فيه فقط قوتان: السيف والعقل، وفي نهاية المطاف ينتهي دوماً العقل بالانتصار على قوة السيف».


*أكاديمي موريتاني