ثوابت التعامل التاريخي مع الحالة الراهنة لإسرائيل تتمحور حول مقاربة أنها دولة مستقرة آمنه يجمعها هدف واحد ومركزي، وهو الأمن بمعناه الشامل. وهذه المقاربة معناها أن يتعزز الأمن حفاظاً على بقاء الدولة في محيطها الإقليمي الراهن، خاصة أن هناك تبايناً واضحاً في الوقت الراهن بين إسرائيل السياسية حزبياً، والتي تعاني من حالة من عدم الاستقرار، والذي سيستمر لبعض الوقت بصرف النظر عن تشكيل حكومة جديدة، والذهاب إلى وضع سياسي جديد في ظل انتهاء المرحلة السابقة. وبقاء النخبة السياسية في موقعها لسنوات، جعلها تنجح من خلال الحكومات الإسرائيلية تباعا في إحداث نقلة نوعية في علاقاتها السياسية مع الدول العربية والأفريقية. وتمكنت من تحقيق مكاسب حقيقية، وبرغم ذلك فإن الأحزاب السياسية فشلت في إعادة تقديم نفسها. وتصاعد مد الأحزاب اليمينية وتلاشي دور «اليسار»، وحركات السلام، وفشلت الانتخابات البرلمانية تباعاً في الإتيان بحكومة مستقرة بما في ذلك الحكومة الجديدة، والتي تحمل كثيراً من المتناقضات الحقيقية، حيث تضم كل الأضداد. ومن بين هذه الأحزاب: حزب «يوجد مستقبل» بزعامة يئير لبيد، وحزب «يمينا» بزعامة نفتالي بينيت، وهما الحزبان الرئيسان في هذا الائتلاف. كما انضم حزب «أزرق أبيض» بزعامة بيني جانتس، وحزب «القائمة العربية الموحدة» بزعامة منصور عباس، كذلك حزب «العمل» بزعامة «ميراف ميخائيلي»، حزب «ميرتس» اليساري بزعامة «نيتسان هوروفيتس»، حزب «أمل جديد» بزعامة جدعون ساعر، وأخيراً حزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيجدور ليبرمان، والمعني أن الاستقرار السياسي لن يتحقق.
ومن الواضح أن الرجل القوي في الحكومة القادمة ليس يائير لبيد ولا نفتالي ببينت، بل هو أفيجدور ليبرمان زعيم حزب «يسرائيل بيتنا»، الذي حرص ليس فقط على الحصول على وزارة المالية، ولكن أيضاً على رئاسة اللجنة المالية في الكنيست، وفي مقابل ذلك لاتزل إسرائيل العسكرية هي الأقوى، حيث يسيطر الجنرالات الكبار على مقاليد الأوضاع السياسية والاستراتيجية بحكم مواقعهم، وذلك إلى جانب قيادات الجيش والأركان وأفرع المؤسسة العسكرية، وهم من أداروا مواجهات غزة مؤخراً، وسعوا إلى تثبيت المشهد الاستراتيجي، وتراضوا بالوصول إلى حالة من التهدئة.
هذا المستوى العسكري سيفرض الاستقرار في إطار ما يجري من هزة حزبية راهنة وتحركات الليكود الهادفة إلى شيطنة الحكومة الجديدة، عبر عرضها على أنها تمثل «اليسار المتطرف» من ناحية، ومن ناحية ثانية محاولة تأجيج المعارضة داخل «يمينا» للانضمام للحكومة البديلة، ولو بعد عدة أشهر من الآن من منطلق أن قاعدة الحزب الانتخابية ذات توجهات يمينية متطرفة، وترفض تشكيل حكومة بالتعاون مع أحزاب اليسار.
وما يفسر التباين الراهن بين إسرائيل السياسية وإسرائيل العسكرية تحرك وزير الدفاع بيني جانتس صوب الولايات المتحدة، وعبر دعم عسكري لافت لتوجيه رسالة تطميينات للإدارة الأميركية بأنه لن يتم عمل عسكري تجاه إيران برغم تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو، وبأن إسرائيل تسعى للحصول على الدعم الأميركي في تمويل برنامج «القبة الحديدية»، إضافة للاستمرار في الحوار الاستراتيجي على المستويين السياسي والاستراتيجي، وبهدف التأكيد على أن إسرائيل ملتزمة بحدود ومقدرات العلاقات التاريخية مع واشنطن برغم ما يجري من تطورات داخل الكونجرس بشأن العلاقات الاستراتيجية مع تل أبيب. والمؤكد أن المستوى العسكري سيحرص على دعم الإنجازات التي حققتها إسرائيل في السنوات الأخيرة، بدليل أن رئيس مجلس الأمن القومي مائير بن شبات ورئيس الموساد يوسي كوهين هما من أدارا فرق التواصل مع الدول العربية التي أقامت اتفاقيات سلام مع إسرائيل. وما تزال المؤسسة العسكرية تمارس دوراً أكبر في إطار مهامها المستجدة، والخلاصة ستمضي إسرائيل في خياراتها الراهنة، ولن ترتبك أو تتعثر في ظل ما يجري حزبياً، فالمؤسسات الأمنية ستستمر في إدارة المشهد حفاظاً على أمنها القومي الذي يعلو فوق كل خلاف.
* أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والعلوم السياسية.