من بقي من أولئك السائقين للحافلات السياحية، والذين يعدون من أصدقاء السفر العابرين في حياتنا، لا يغادروننا من دون أن يتركوا شيئاً منهم في ذاكرتنا المرتحلة، ذلك السائق الذي أوحي لي أنه سليل أسرة نبيلة، وحدها الحياة التي غلبها التمدن والتبدل في أوروبا جعلته أشبه ما يكون بحصان الحكومة المدرك أن أيامه قليلة، لكنه غير قادر أن يجرب الركض في البرّية وحده نحو حريته وحتفه الذي يريده أن يأتي تحت ظل شجرة، لا برصاصة من مجند مستجد ترهبه لحظة مواجهة الموت، ولو كان حصاناً هرماً، كان ذلك السائق الأنيق والظريف، والذي بدا معتذراً لنفسه عن مهنة السياقة التي يراها في قرارة نفسه أنها لا تليق بنسل جده الارستقراطي، ولا ما رأت أمه من عز في حياتها.
سلك بنا طريق نابليون بونابرت القديم بين سويسرا وفرنسا، وهو طريق متعب وممل، وكثير الانحناءات، لأنه شق لكي تطأه الخيول والبغال، لأنه يمر بالقرى الكثيرة، والمنعطفات الوعرة، والسائق الظريف كان يسأل كل كيلو متر شخصاً قروياً، خاصة حين يلتقي طريقان أحدهما على يمينه والآخر على شماله، كانت ربكته واضحة من خلال عدم ثقته وهو يضع يديه على مقود السيارة، مع محاولة استعمال الرجل اليمنى المضطربة على دواسة التوقف، خارجة منه همهمات غير واضحة لذلك الجالس بجانبه الذي كان قادراً بفرنسيته أن يعبر الحدود السويسرية الفرنسية ولو كان وحيداً، توقفنا لتناول طعام الغداء، وكان حينها فرحاً بذلك المطعم الغالي الذي ربما عرفته عائلته يوماً ما، وقلقاً أن لا يعجبنا، لأنه من اقتراحه، لذا أحياناً كنا نجده كمن يريد أن يخدّم علينا، ويسألنا عن التفاصيل، لكن لأن درجة رضانا عن ذلك الاختيار كانت عالية، ومشجعة له لينطلق، ويتحدث برحابة صدر معنا، وهو المهذب حد الملل، حتى تعتقد أنه لا يعرف أن يحكي نكتة أو يعلق بطريقة ساخرة على الأشياء، ولو كان مع زوجته، انطلق بِنَا بحافلته السوداء حتى أوصلنا للفندق الذي سننام فيه ليلة واحدة، وسنتناول طعام عشائنا في مطعمه ذي النجمتين «ميشلان» حسب تصنيف المطاعم الراقية، قضينا ليلتها ليلة من ألف ليلة، والتي تُعد في الحياة من مصادفات الفرص ومعطيات الحظ، كان المطعم خيالياً، مما ضاعف حظوظ سائقنا أن تكون إكراميته عالية، وهذا ما شعر به ليلتها، لكنه لم يتيقنه حتى انتفضت يده اليمنى برعشة مستعجلة في باريس، وهو يستلم ذلك الظرف الفندقي السويسري المجاني، المزين بخطوط وشعار ذهبي، حين أوصلنا باريس في اليوم الثاني، كان قد أصبح إنساناً مختلفاً، واطمأن أنه نجح بمهمته في مهنة لم يطلبها في الحياة، خاصة في طريق لم تعبد لغير الخيول والدواب، بعد تلك الرحلة الشاقة اعترف لي أنه لم يكن سائق حافلة من قبل، ولم يكن يعرف هذا الطريق، لكنه سمع من أبيه عنه وهو في صغره، واعتقد أن الثلوج ردمته وأخفته خلال تلك السنوات البعيدة: حتى جئتم من صحرائكم لتدلوني عليه، وأنا سعيد بتلك التجربة التي عادة لا يسمح بها عمري، غير أني سأحدث عنها لزوجتي لأسابيع عديدة من دون ملل.