هناك أصدقاء وقتيون، تجلبهم الصدفة، ومتع السفر، ورؤية الدنيا، والفضول أحياناً، مثل بوابي الفنادق العتاة، موظفة الاستقبال البشوشة، مسؤول ردهة الفندق أو مدير المطعم، لكن أجمل أصدقاء السفر العابرين، والذين لا نرتبط بهم كثيراً، وعلاقتنا معهم لا تتعدى الأيام، أو لا تزيد على رحلة يوم، هم سائقو الحافلات السياحية، هؤلاء تجدهم يتصفون بصفات متشابهة رغم اختلاف البلدان، وكأن المهنة الواحدة تطبعهم بطابعها، أو هي جزء من تعاليم شركات السياحة الصارمة المفروضة عليهم، ليخرج السيّاح بانطباع الرضا عنها وعن السياحة في البلد، ففي أوروبا تجدهم متشابهين في الأحجام الممتلئة، يمتازون بالصمت وخفة الدم، والحرص على اكتمال عدد الفوج السياحي قبل أن تنطلق الحافلة، ومهارة السواقة بتلك الآلة ذات العجلات الثماني ويزيد في شوارع المدن الضيقة، يبدون للسياح أنهم أصدقاء مع المرشدين السياحيين، غير أنهم غير ذلك، فالعادة أن المرشدين يفرضون عليهم فرضاً، وليس هناك خيار في التوأمة بين سائق الحافلة والمرشد السياحي غير تلك السلة المصنوعة من القش، والتي عادة لا تمتلئ بنقود السياح الفكة، والتي تخرج من جيوبهم بكسل وتثاقل في نهاية اليوم السياحي.
من هؤلاء السائقين من تعجبك أجسامهم، وهم يفتلون مقود الحافلة بتلك الانسيابية والرشاقة صعوداً للطرق الوعرة، أو نزولاً للأماكن الحلزونية الضيقة، بعضهم يختار أن يكون متميزاً، إما بشوارب تقص نصف وجهه، أو بشعر طويل أو حليق تماماً أو بوشم ظاهر على الساعد، بعضهم، وخاصة في البلدان العربية السياحية، يحاول أن يبدو للسائحات الأجنبيات بفحولة مكتملة، وطافحة، بعضهم يظهر بطولة كاذبة، سرعان ما سينساها السائحون في غمرة انشغالاتهم الكثيرة، لكنهم جميعهم بلا استثناء يوحون لك بعدم النجابة في الصفوف الدراسية، وأن دراستهم النظامية تعثرت كثيراً، لكنهم في بيوتهم تسير العائلة بانضباط تام، وكلمتهم هي العليا في ذلك الفضاء المنزلي، ولا يكترثون بمستقبل من كان الأول في صفهم.
من هؤلاء السائقين الذين ما برحوا الذاكرة، سائق عبر بنا جبال البرانس في إسبانيا، كان يقظاً في تلك المهاوي، لقد أشعرنا أننا من ذوي بيته، ويخاف علينا خوف الأخ الكبير، وواحد آخر ظل أسبوعاً يقودنا في مدن أوروبا، لكنني لم ألتفت إليه مرة، ورأيت جفنه مطبقاً على الآخر أو يتثاءب بعد طعام الفطور، أو تغلبه النسمة الباردة التي تأتي مباغتة من نافذته لرقبته المحمرة من صهد شهر أغسطس.