للوهم قوةٌ بيد منتجيه وجبروت على أتباعه ومصدقيه، إنه قادر على تذويب كل الثوابت والمعاني والحقائق في سبيل فرض سطوته واستمرار مخادعته ورواج تمويهه.
انتهت حركة «حماس» مؤخراً من حربٍ قاسية مع إسرائيل، تدمرت فيها غزة، ونال الشعب الفلسطيني في غزة النكال والدمار، وتعاطف العالم مع جراحات الشعب وعذاباته في ظلّ الهزيمة النكراء التي ألحقت بـ«حماس» قياداتٍ وكوادر، والخراب الذي نال غزة شعباً وبنية تحتية، ولكن «حماس» لا تصدق هذا كله وتروّج لدى العالم أن «النصر» كان حليفها، وأنها استطاعت أن تهدد إسرائيل دولة وشعباً.
هكذا بكل لا مبالاة تصبح الهزيمة نصراً، والذلة عزاً، والدمار عماراً، لا لشيء إلا لأن قيادات «حماس» ومعها «المقاومة» قررت أن تقول بأنها انتصرت، أما دلالات اللغة وشواهد الواقع وما يراه العالم عياناً بياناً، فهذا غير مهمٍ، فيمكن تحت قداسة القضية تمرير أي شيء وقول أي كلامٍ.
هذا جرى من قبل، ويجري حالياً مع من يحبون تسمية أنفسهم بـ«المقاومة» ومن قبل وبعد حرب 2006 والهزيمة النكراء التي ألحقت بـ«حزب الله» اللبناني خرج قائده ومرشده الذي كان يتوسل إيقاف الحرب بأي شكلٍ، ليقول للناس إنه «انتصر» والمقاومة حققت «الانتصار» دون أن يسائله أحد من أتباعه عن معنى «النصر»، الذي يعنيه؟ فكل شيء ينطق بالهزيمة والخسار والدمار.
ميليشيا «الحوثي» في اليمن ومنذ بداية انقلابها على اليمن دولةً وشعباً، وهي لم تهزم قط، وكل معاركها «انتصارات» وكل حروبها «مظفرة» والأتباع المساكين يصدقون هذا «الوهم» الذي يتم تسويقه لهم وكأنهم لا يعقلون.
الأيديولوجيا تعمي وتصمّ بالفعل، وهي نظارة بمجرد وضعها على عيني التابع يمكن قلب كل الألوان والحقائق ليصدق فقط ما يريده له قادته من صنّاع الوهم المحترفين ويبقى تائهاً بلا وعيٍ جاهلاً بلا علمٍ، سوى اقتفاء أثر مضلّيه وشراء الأوهام التي يروجونها له.
في التاريخ البشري كله وعلى طول الزمان وعرض الجغرافيا اخترع البشر اللغة لتعبر عن المعاني، وحددوا أطرها وتفننوا في صياغتها وقامت علومٌ لغويةٌ كاملةٌ وتطورت وتفرعت لإحكام السيطرة على المعاني، ثم تأتي لحظاتٌ ومواقف مثل المذكورة أعلاه، فينقلب كل شيء وتصبح الهزيمة النكراء «نصراً» والضعف «قوةً» والخسارة «ربحاً».
المعاني السائحة والذائبة مفيدةٌ للحشد والتهييج والتجنيد، والتابع الأعمى لا يستطيع الإبصار حتى يرى الأشياء كما هي ومكنة التضليل تعمل بكامل طاقتها لضمان استمرار «العمى» و«التيه» مسيطراً على حياته ورؤيته وعقله، ومن هنا فالأيديولوجيا قاتلة للإنسان ولقيمته ووعيه.
في كل الحروب التي خاضتها إسرائيل كانت هي المنتصرة ما عدا حرب 73 التي قادها الرئيس المصري أنور السادات، وفي كل الحروب التي خاضتها بعض ما يسمى بالثورات في الشرق الأوسط انهزمت وهي تسميها «انتصاراتٍ»، وأوضح الأمثلة على هذا ما جرى في حرب 67 بين إسرائيل وبعض الدول العربية وحيث إن الهزيمة كانت ماحقة على العرب، فلم يتجرأ أحدٌ على تسميتها «نصراً»، ولكنهم اكتفوا بتسميتها «نكسةً»، وليس «هزيمةً» فكانوا أكثر حياء من أتباع الإسلام السياسي الذين يقلبون المعاني دون مبالاةٍ أو حياءٍ.
فتشوا في غزة ولبنان واليمن ودققوا في كل ما يرد من هناك، وابحثوا عن أي «صورة» أو مقطعٍ مصورٍ يوحي بأي شكلٍ من أشكال «النصر» فإن لم تجدوا فاعرفوا الكذبة ولا تصدقوهم مجدداً.
أخيراً، فالأمم لا تنتصر بالعنتريات والشعارات والمزايدات، وأكثر من هذا لا تنتصر بقلب المعاني والدلالات وتشويه الحقائق والمعطيات، بل بالصدق والمعرفة والعلم والعمل، وهذا الخداع والوهم هو الكفيل باستمرار أجيالٍ تدمن الهزائم والخسائر دون وعي.


* كاتب سعودي