لا يزال يرسخ في ذاكرتي تقرير صورة إخبارية سردية من تلك الفترة المتزامنة مع انتهاء الحرب الأهلية في لبنان منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وقد بثته وكالة أنباء وتناقلته الصحف المطبوعة آنذاك عن عودة للسيدة فيروز إلى لبنان بعد سفر، وكيف أن موعد عودتها المعلن خلق حالة فانتازية من الهدنة بين كل الفصائل المتنازعة والمتحاربة، فقررت تلك الفصائل يوم وصول السيدة إلى مطار بيروت أن تفتح كل حواجزها ومتاريسها في خط سير السيدة إلى بيتها، وأن ينكس كل المقاتلين على تلك المتاريس أسلحتهم في حضورها العابر. (وكان للسيدة منزلان في بيروت تقيم فيهما دوريا أيام الحرب الأهلية، أحدهما في الرابية حيث الأكثرية المسيحية والآخر في الروشة حيث الأكثرية مسلمة).
الرحابنة مع فيروز، كانوا يمارسون نفس فعل «الأديان» في ترغيب مريديهم، قدموا لهم فردوساً من أوطان وأناس فوق الغيم، وكانت فيروز التلاوة المقدسة لكل الكلام الحلو بصوت يسحبك بعيداً.
كانت السيدة مع «الأخوين رحباني» حالة ثلاثية فريدة شكلت في النهاية وحدة حال لمدرسة في الغناء والموسيقى والمسرح، أسسها عاصي ومنصور ومن تحت عباءة الحالة خرج إلياس وزياد كعبقريات موسيقية لم تنشق عن الأصل بل كانت مستقلة بتكوينها ومرتبطة بتأسيسها.
من مدهشات الحالة الرحبانية أنك أمام رجلين من إنطلياس، «ضيعة» من ضياع المتن اللبناني، ذابا في الموسيقى والشعر، فاستطاعت الحالة أن تنبش في الربع الخالي نفسه لتعيد إحياء عنترة بن شداد مثلاً، تلك الشخصية الغابرة جداً في التاريخ من قبيلة بني عبس، وتعيد إنتاجه من جديد فتنفض عنه مخملية الصوت الفيروزي كثبان الرمل بغنائها «لو كان قلبي معي..» وبدمج تاريخي فانتازي كمقدمة لموشحات أندلسية متأخرة عن عنترة بمئات السنين منتقاة بعناية، فتصبح خطوط الطول ودوائر العرض عدماً لا وجود له في حضرة الموسيقى الرحبانية.
تلك الحالة ذاتها التي أعادت الاعتبار لشخصية قلقة ومقلقة في تاريخ الشعر والسياسة العربية الإسلامية، مثل أبي نواس، الحسن بن هانيء، فقام الرحابنة وبهدوء شديد بإحياء أرق غزله في مواجهة تاريخية متأخرة أمام تيار سلفي شوه سيرة الحسن بن هانيء لأسباب سياسية فصوره بالخالع العابث، فكانت رائعته بصوت فيروز «حامل الهوى تعب» رداً موسيقياً مفحماً على التشويه التاريخي.
فيروز، السيدة التي لا يغيب صوتها في أي يوم نعيشه عن أي مدينة عربية -«صوتي بكل مدينة» كما قالت- وبكل كبريائها الواضح في ظهورها وحضورها تحمل في طيات ملامحها وتفاصيل حياتها تلك اللمحة البسيطة لناسكة مسيحية طيبة شديدة التواضع إلى درجة أن صحفياً سألها في مقابلة نادرة إن كانت تصلي، فأجابت باقتضاب: كل الوقت بصلي. وحين استطرد سائلاً: شو بتقولي بصلواتك؟ ردت بكل عفوية المؤمن بتواضع: (إذا قلتلك شو هي صلواتي، ما بعودوا صلوات، بصيروا أخبار!).
جواب صوفي بسيط، يكشف ذكاء السيدة وحجم إدراكها الكامل لذاتها الموزعة بين الفنانة فيروز.. والسيدة المتواضعة في حياتها نهاد حداد.


* كاتب أردني مقيم في بلجيكا