نجوى السماء تظهر جلية، تمتثل بحنايا الذات حين يرحل من تعرفه حق المعرفة، حالة الألم توقظ الذاكرة الخفية بشكل غريب وشارد إلى حد نسيان الوجود، تلتفّ بحالة صفو ذهني محزن، كأن الذهول المباغت يعيد المرء من حيث البدء، تتصفح السنوات الطوال، وقضايا الحوارات، واختلافاتها الراقية، وما نسجته الأيام من تفاصيل مريرة ومتفاوتة، فالرحيل يستعيد المشهد بدقة متناهية، لكن وحده الإنسان يستدل على تفاصيل الحياة مع رفقاء الدرب، ومع من تعرفهم بشغف المودة، وما يلهمه الرحيل من الأسى والعتب، والمكاشفة في وهجها الآخر، ترهف السمع إلى النفس، إلى تفاصيل مرت، وعلى نحوها تبدأ تستعيدها، ربما تمررها على مضض، وتعفو وتبتسم رغم الألم تستعيد أفكار الراحل واختلاجات الأمس، تلك هي الملامح كأن يحرسها الصمت منذ زمن، وتغوص في سياق الوجوه الراحلة كأنها ابتكار مباغت، كأن همسات النفس تختزل ما هو أبعد من الرحيل، تمرر تلك الفصول الدنيوية، رغم ذهول الموقف، وفطرة الخوف وتعدد وجوه الصمت من أجل أن يستيقظ الحلم من جديد.
لا يندثر الإنسان بالرحيل، ولا تنحسر الذكرى على عتبات الماضي، بل تتجدد في انتشاء الزمان والمكان وصوت خفي يستدل عليه الزمن، استدلالاً جميلاً كما لو أنه سيرة ذاتية تلامس الوجود، وتبتغي أن تصافح المشهد اليومي كما لو يعيد الراحل ابتساماته متجلية في ذاكرة مزمنة، ليستعيد بها ملامح الحياة كنسمة شاردة، تظل الفراغات وحدها جميلة كلما تستدل وتكبر على حالات الرحيل، والجمالية أن تتناغم مع الأحلام بالحياة لتعكس مراياها الآسرة في سياق مؤثر ومطمئن.
حول الوجوه الراحلة الجميلة كثيراً ما تستبد بها التساؤلات الواسعة والحوارات المتوهجة والمتجسدة أحياناً، والرحيل هو نواة النسيان لكن يظل يتماهى لسنوات ما بين الحياة والذكريات لا ينطفئ نوره رغم الغياب، يحضر صيته في الفرح والحزن، يحضر الرحيل بل يستمد من النسيان سماته ويتوهج في حضوره المشرق ويتسم بالحب الأزلي رغم حالة الغموض، إلا أن روح الإنسان لا تنتهي بالرحيل بل تمضي في استعادة الذكرى بحكمة أبدية.
تعجب حين تستمد من الذاكرة كثيراً من سمات الحياة وروعتها، وتضفي على النفس عبق ما يمضي من الحياة، وعبق ما يلهمك صوتٌ خفي لا يخفت عند رحيل الأعزاء بل يرسم فسيفساء من التلاحم الفطري يتسم بالحب، تتسع الحكمة ويبزغ حال العلاقات الحضورية في إنسانيتها الحق، ويعلو بالذاكرة صوت الوقار للرحيل الملهم للحياة.