تلعب المتغيرات الدائمة دوراً أساسياً في تبديل الخطط والإستراتيجيات لمحاولة التقليل من الخسائر التي تترتب على هذه المتغيرات، أو مضاعفة الكسب الذي يتأتى من خطط واستراتيجيات مرنة قادرة على معالجة الأوضاع المتغيرة بصورة حاسمة وعقلانية توظف أفضل الأفكار والأدوات والإمكانيات التي لا يمكنها كسب جولة واحدة سريعة فحسب، بل الانتصار في جميع الجولات المتوقعة.
قد يتجاهل المتخصصون، عفوياً أو بشكل مقصود، مواجهة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية الاستراتيجية التي حدثت في الشرق الأوسط، خلال العامين الأخيرين، ولكن أحداً لن ينكر أن الأحداث الكبرى الثلاثة، التي وقعت في العالم والمنطقة قد بدّلت موازين القوى بشكل غير مسبوق وغيّرت الاتجاهات والخطط والتهديدات، فأصبحت البوصلة أكثر وضوحاً وتحديداً لما سيكون عليه المستقبل.
بعد أن أدرك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ومعه فريق الحزب «الجمهوري» الأهمية القصوى التي تتمتع بها بعض دول الشرق الأوسط ودورها الاستثنائي والمحوري لتغيير وجه الصراع والنزاع في العالم أجمع، وفهم لاحقاً وبعمق شديد حقيقة السياسات الإيرانية الإرهابية التي تهدف إلى خلخلة أمن المنطقة من خلال الميليشيات المسلحة، التي تكاثرت في أقل من أربعين عاماً كـ«حزب الله» في لبنان وسوريا، و«الحشد الشعبي» في العراق، و«الحوثية» في اليمن، و«حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين، لدرجة يصعب تفكيكها، فاضطر الرئيس ترامب إلى مغادرة الاتفاق النووي، وبدأ يمارس ضغوطه على إيران لردعها سلمياً، وكاد أن ينجح في مسعاه، لولا نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جاءت لصالح «الديمقراطيين».
في سياق الحدث الأول، وتحت أنظار ومراقبة دول وشعوب العالم أجمع، تصدّر الحدث الثاني الأكثر أهمية قائمة الأحداث التاريخية المفصلية، فأعلنت الإمارات وإسرائيل في سبتمبر 2020 توقيع معاهدة سلام كان من شأنها أن دعمت خطة نزع مخالب إيران من دون حرب وتصحيح خياراتها ومساراتها الإرهابية، بتقليص حجم نفوذها في المنطقة وتراجعها لتصبح دولة جارة مسالمة وليست عدواً أو مصدراً للتهديد، وإشراكها لاحقاً في العملية السلمية التي تستحقها جميع شعوب المنطقة، وستحصل عليها آجلاً أم عاجلاً، لنفض غبار النزاعات والحروب والعداء والتحول نحو التنمية والتطور والتنافس مع دول وأقاليم العالم المتقدم.
المصالحة مع قطر، وهو صلح سياسي واجتماعي واقتصادي ذو أهمية استراتيجية عليا، كان الحدث الثالث الذي يعني من دون شك أن الخليج العربي قد أصبح جاهزاً للنظر في العملية السلمية التي بدأتها الإمارات والبحرين وإسرائيل وإعطائها حقها المنطقي والعقلاني في البحث والتدقيق، بما يسهم في إحياء عملية السلام وعودة الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات وحل الدولتين بدعم من أميركا ومصر والأردن وباقي دول العالم.
لا أعتقد أنه ما زال هناك من يصدق أن إيران و«حماس» و«حزب الله» و«الحوثي» هم الذين سيحررون فلسطين، وأن هذا المسار الذي لم يتحقق منذ عام 1948 ولم يتحقق مرة أخرى منذ الثورة الإيرانية وتحت كل شعاراتها طيلة اثنين وأربعين عاماً سيتحقق ببضعة صواريخ يطلقها «حزب الله» أو تطلقها «حماس»، وأن هذه الفزّاعة هي التي ستعيد الشعب الفلسطيني إلى أرضه ودولته التي يريدها، ولكن سيُصدّق العقلاء، من دون شرح ولا تفصيل، كما أدركت مصر والأردن سابقاً، ثم أدرك الفلسطينيون في أوسلو، أن السلام وحده هو الخيار الوحيد المتاح، والذي سيظل دائماً متاحاً ومقبولاً ونافذاً لاستعادة الحقوق وعودة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
الإدارة الأميركية الحالية، تفهمت خلال النزاع الأخير، أن عودتها بقوة إلى الشرق الأوسط، ولعب دور أساسي مع مصر والأردن والإمارات هو الطريق الأقصر لتهدئة المنطقة من ناحية، وردع إيران من ناحية أخرى، أما السماح للإيرانيين بالالتفاف على الحلفاء في المنطقة عبر فيينا ومحاصرة أميركا بالضغط الأوروبي للعودة للاتفاق النووي، فإنه لن ينتج سوى المزيد من الصراع وتصبح تلك الفزّاعة المضحكة، التي استخدمتها إيران طيلة السنوات الماضية، بأنها ستحرر فلسطين، مادة لن تَضحك منها الأجيال القادمة فحسب، بل ستبكي أيضاً حرقةً لأن هناك من صدقها وحاول بيعها وتسويقها.

* لواء ركن طيار متقاعد