كلّ العناصر جاهزة للمواجهة في العراق، بين القوات المسلحة بمختلف قطاعاتها وأجهزتها وبين المليشيات المنضوية في «الحشد الشعبي» وتلك التي بقيت أو استُحدثت خارجه. رغم أن الواقع على الأرض يُظهر الميليشيات قوية ومنتشرة وذات مناطق نفوذ، وأنها مستقوية بـ«شرعية» اكتسبتها بقانون أقرّه البرلمان عام 2016 وبكونها رأس حربة المقاومة ضد ما تعتبره احتلالاً أميركياً، إلا أن الواقع نفسه يُظهرها معادية للدولة العراقية، ومتمرّدةً على القوات المسلّحة، ومرفوضةً من معظم البيئة الشيعية التي تنتمي إليها ومن سائر مكوّنات المجتمع العراقي. ثم إن «الحشد» نفسه بات حشدَين أو أكثر بفعل المتغيّرات الداخلية، وأهمها الحراك الشعبي المستمرّ بوتائر مختلفة منذ مطلع أكتوبر 2019 مطالباً بمحاربة الفساد وبسط سلطة الدولة، أي بإنهاء سلطة المليشيات وسطوتها.
المسألة ليست موازين قوة نارية، بل هي خيار بين الدولة التي يريدها الجميع وبين الفوضى أو اللادولة اللتين تسعى إليهما قوى أمر واقع لا يمكن أن يدوم. ولا هي مسألة انقسام عمودي بين من يحبذون إحدى هيمنتَين، أميركية أو إيرانية، بل إن عقدَين من الضياع والحروب الأهلية باتا أكثر من كافيَين لوضع العراق على سكّة استرجاع ذاته واستقراره الداخلي وعلاقاته مع محيطه العربي.

وقد حفل العام المنصرم بالخطوات الوئيدة والبطيئة نحو إعادة مدّ العراق بالمقوّمات الصحيحة لمستقبله. فالحكومة الحالية واقعية بحفاظها على مصالح الدولة مع الولايات المتحدة، وعلى علاقة طبيعية مع الجوار العربي والإيراني، وآخر ما تريده أن يكون العراق ساحة صراع دولي أو إقليمي، أو أن تكون هناك قوى داخلية ساعية إلى صراع كهذا بمعزل عن الدولة وأهدافها.
قبل نحو عامٍ، جرى اعتقال مجموعة من «كتائب حزب الله» ثم أُفرج عنها، تحت الضغط، وكشفت الواقعة أولاً قدرة القوى الحكومية على التنفيذ متى يصدر الأمر، وثانياً وجود اختراقات في الأجهزة وفي المنطقة الخضراء المحصّنة، وثالثاً أن الحكومة لم تكن ساعية حينها إلى مواجهة مسلّحة، بل إلى فتح تفاوض مع قيادة «الحشد» لوضعه أمام مقتضيات قانون إنشائه وخضوعه للقائد العام للقوات المسلّحة، أي لرئيس الوزراء.

بعد ذلك حصلت وقائع عدّة، منها إطلاق صواريخ على قواعد عسكرية أو استعراضات مسلّحة للمليشيات، إلى أن ألقي القبض أخيراً على قاسم مصلح، قائد عمليات «الحشد» في محافظة الأنبار، واتخاذ إجراءات قضائية بحقّه، بعدما جُمعت المعلومات عن ضلوعه في إطلاق صواريخ على قاعدة عين الأسد الموجودة في الأنبار، مع إشارات إلى تهديدات وجّهها إلى نشطاء في الحراك الشعبي تعرّضوا لاحقاً للاغتيال. حاولت المليشيات ترهيب السلطة لإطلاق سراحه فوُوجهت هذه المرة بإجراءات صارمة فرضت عليها الرضوخ للواقع الجديد، لكنها ستواصل المحاولة، لأن سقوط «رأس كبير» ينذر الرؤوس الأخرى بأن لا حصانة لها من أي نوع.
إذاً، فالمسألة هي، بحسب بيان مشترك للرئاسات الأربع بما فيها القضاء، بين «مشروع وطني» لـ«حفظ هيبة الدولة وسيادتها» ومشروع يريد الدولة تحت إرهابه، خلافاً لإرادة قوى الشعب والفاعليات السياسية والاجتماعية. الدولة تتجنّب سفك الدماء والتسبّب بالدمار، والميليشيات تدافع عن «سلطة» لها تراها آيلة إلى الزوال مهما طال الوقت. كانت المواجهة متوقّعة دائماً، ولم يعتقد أحد بأنها سهلة، لكن «الحشد» بات مُطالَباً بحسم خياره نهائياً: إما مع الدولة أو ضدّها. 

*كاتب ومحلل سياسي -لندن