قال ونستون تشرشل (نحن نشكل مساكننا ثم تشكلنا مساكننا).
المكان هو الأرض التي عليها بنى الإنسان وجوده. فالمكان كان قبل الإنسان وجاء الإنسان لتحتويه الجغرافيا ويبنى بين تضاريسها كيانه وحضارته وجغرافيته الخاصة حين غير نمطية الطبيعة. خرج من كهوف الجبال إلى خيم الصحاري، ثم شيّد البيوت، وصارت قرى ومدن وحياة يعيشها وتصنع واقعه وخيالاته، وتكونت المجتمعات التي تشابكت حتى صارت حضارات إنسانية متنوعة.
بين الإنسان والمكان علاقة تعكس معطياته الثقافية والمادية والنفسية، وحالة ارتباط وانتماء تمثل متكئاً أساسياً لبناء هوية الإنسان.
لمفردات المكان وطبيعتها تأثير على تعامل الإنسان معها نفسياً ومادياً. ومع الاستمرارية يحدث تنميط للسلوك مع ثبات تلك المفردات، ويتحول هذا السلوك مع تراكم الزمن إلى مفردة من مكونات الهوية الأساسية التي تعكس طبيعة سكان هذا المكان وتبايناتهم عن سكان مكان آخر. فعلى سبيل المثال تختلف سلوكيات أهل المدن الذين يسكنون الأبراج المغلقة عن أهل الريف الذين يسكنون البيوت الواسعة ذات المساحات المترامية والمتماسة بصورة مباشرة مع الطبيعة والأرض، وتنخفض سطوة الجدران فيها، وكل ذلك يعكس سلوكيات مختلفة ما بينهما.
إن تطور العلاقة بين الإنسان الإماراتي وبين الأماكن والبيوت تطورٌ ممتد لتاريخ قديم يعود لآلاف السنين. فمقابر «جبل حفيت» تشهد على قدسية الحياة الأخرى التي كان يؤمن بها الإنسان الذي عاش ما قبل الميلاد على أرض الإمارات، ويبدو أن هذ الإيمان كان طبيعة الإنسان عبر كل الحضارات التي مرت بالأرض خلال تلك الحقبة الزمنية، فكثير منها كان للحياة الأخرى نصيب كبير مما وصل إلينا من آثار ومباني ومقابر تحدت الزمن وظلت باقية. وانعكست آثار تلك الأماكن على التكوين الهوياتي للإنسان وتتطور تلك العلاقة لتأخذ بعداً مختلفاً حين عاش الإماراتي القديم حياة البداوة مرتحلاً بين تلال الصحاري، فكانت الخيمة هي جدران بيته. وكانت طبيعة هذه الحياة معززة لليقين بقدرية الحياة وخضوع استجابة الطبيعة لمتطلبات الحياة للعطاء الإلهي القدري، وذلك نتج عنه أن أهم مميزات هويتنا القيم الإيمانية والإنسانية الراقية كالرضا والسعي والشجاعة والكرم وغض الطرف واحترام حرمة البيوت التي كان من السهل اختراقها لضعف جدران الخيم وسهولة كشف ما وراءها، لكن قيم إنسانية تكونت كمردود لضرورة الحفاظ على تماسك المجتمع وقيمه، فكان الحياء واحترام حرمة البيوت انعكاس لطبيعة العلاقة بين إنسان هذه الحقب التاريخية والأماكن التي عاش فيها. وتراكمت تلك القيم وتغيرت طبيعة الأمكنة وتوالدت سمات وملامح هوية جديدة هي قيم مضافة على هويتنا الأصيلة التي ظلت باقية حتى الآن رغم كل هذا التطور والتغير في نوعية الأماكن وانعكاساتها على شخصية الإنسان الإماراتي.
إن العلاقة التي تربطنا ببيوتنا هي علاقة حية رغم أن البعض يراها مجرد جدران صماء إلا إنها تظل شاهدة على العلاقات الإنسانية التي بناها سكان البيوت بينهم وبين بعضهم وبين جيرانهم.
تظل البيوت حية فينا مهما تباعدنا عنها فكم يأخذنا الحنين إلى تلك الأماكن القديمة التي عشنا فيها أحداثا قديمة وحين نعود إليها وكأننا نستعيد روحنا القديمة ونعيد دائرة الزمن للوراء ونعيد معايشة تلك المشاهد التي ظل المكان شاهدا عليها. ويظل التساؤل محيراً هل نحن نعيش في تلك الأماكن أم أنها تعيش فينا؟ إنها العلاقة الحية بين الإنسان والمكان.

*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي.