عندما توفيت والدته أعتقد أن الدنيا توقف عنها الحب وانقطعت منها الرحمة ونضب عنها الوفاء، ولهذا نزل عليه قرار والده -المسن- بالزواج من أخرى كالصاعقة، فقرر مقاطعته، خصوصاً عندما رأى عروس والده الصغيرة، التي كانت في عمر أصغر إخوته. لم ينته غضب صاحبنا عند هذا الحد، فقد ازداد سخطاً على والده بعد أن أنجبت العروس صبياً بدت علامات الإعاقة ظاهرة فيه، وظل سنوات طفولته الأولى لا يبرح مكانه كخرقة بالية بسبب إعاقة في قدميه. وبحكم كونه الابن الأكبر وخصوصاً بعد وفاة والده، أصبح صاحبنا مسؤولاً عن رعاية زوجة أبيه وابنها -المعاق- بجانب مسؤولياته الأخرى تجاه منزله وإخوانه.
تعود هذه القصة إلى بدايات أربعينيات القرن الماضي في أحد نجوع مصر، أما عن حال أفراد هذه القصة الآن فهم: صاحبنا الساخط على الحياة -والمؤمن بتوقف الرحمة والوفاء عن الأرض- يعد من أهم أعيان المنطقة التي يعيش فيها، ويجله الناس بكل الحب، له من الأبناء أربعة، ومن الأحفاد خمسة عشر حفيداً يعملون جميعهم في مصنع كبير لرجل أغناه الله تعالى فملأت الرحمة قلبه وغلبه الوفاء، وشُغف حباً بأخيه الكبير الذي تكفل به وبأمه بعد وفاة والده المسن!
نعم.. هذا ما حدث. لقد تمكن ذلك الصغير المعاق من مهنة فريدة في صناعة السكر، ففتح الله عليه أبواب رزقه، وتمكن بعد جهد وابتكارات فريدة من بناء عمله الخاص الذي توسع فيه مع السنوات، فأصبح أحد أهم ملاك مصانع السكر في ناحيته، فأكرم أخاه وأعان أبناءه ووظف أحفاده.
يا تُرى، كم مرة شاء القدر أن يحدث أمر جلل في حياة أحدنا، فيصيبه هذا التحول في مقتل، ليكفر بعدها بكل شيء في لحظة، بعد أن تتعطل قدراته على استيعاب ما يحدث، غير مدرك القواعد والقوانين التي تعمل على هذه الأرض! كلنا يصيبنا ذلك، وقلة قليلة من تتدبر حكمة الخالق، وتتأمل في معناها، ومحاولة فهم غايتها بصبر ويقين من حكمة حدوثها. فدائماً ما ستكون هناك غاية عظيمة، فيها من الرحمة أكثر مما نظن، ومن الوفاء أعظم مما نتوقع، ومن الحب أرحب مما نعتقد.