عجيب هذا الزمان! عجيب في وحشته، في غرابته، في غربة الإنسان عنه. عجيب في انكسار الأحلام الكبرى، والأحلام البسيطة. في ما آلت إليه المصائر والدول والبشر والمجتمعات والثقافات والحضارات. عجيب في ما آلت إليه الضمائر والنفوس في بعض الجموع والأفراد. فيما آلت إليه قيم النبل والفضيلة والخير والعطاء والطيبة والسماحة والإيثار والكرامة وعزة النفس والكبرياء والشموخ والترفع والشجاعة والضمير والوعي والإدراك والثقة والأمانة ويقظة الحواس ورهافة الإحساس، والحب ورحابة الأمل والنهوض كقوة ونهج وغاية.
عجيب في ما صار عليه الواقع لدى البعض من فقر الروح وخواء الباطن والنفعية والأنانية والاتباع والحقد والكراهية والقبح والتبجح والنفاق والرياء والمحاذاة والخوف كسقف وحماية للذات عبر الارتهان لغيرها!
كأنما كل القيم العظيمة التي سعى إليها الفلاسفة والمفكرون والمبدعون والشرفاء عبر العصور كلها صارت قياساً للغفلة والسذاجة والغباء والمثالية والتطرف والعاطفية، لا يصاب الإنسان منها إلا بسوء الحظ والفقر والتهميش والنبذ والسخرية المعلنة والمبطنة والشفقة والرثاء! كأنما كل المعايير التي قاومت البشرية شرورها في فسحة الأمل والتوق والإشراق صارت لدى البعض قياساً للذكاء والفطنة والنباهة والشطارة والقدرة على التحايل والمراوغة والاتصاف بالواقعية والتعقل. ينتج عنها الحظ السعيد والرفاهية والمكانة الاجتماعية والجاه والقوة والنفوذ!
هذا الاختلاط المذهل الذي بات بعض الناس يتخبطون فيه، ويصطرعون مع تناقضاته، وتضطرب حياتهم باطناً وظاهراً في التباساته، حتى صار أغلبهم يعجز عن إدراك ما تنطوي عليه روحه من خير أو شر، وما يرغب فيه وما لا يرغب، ما يسيره وما يصطفيه، ما يجعله سيد نفسه ومصيره، وما يجعله متبتلاً في محراب المنفعة الفردية الضيقة المرذولة. وصرنا نرى المتناقضات تتعايش في النفس الواحدة أحياناً تعايشاً سلبياً، ونرى السلوك مزدوجاً في الآن نفسه بين الصدق والكذب والغش والنقاء. وحل اليأس البائس الخاوي محل الأمل الكريم الرحب. وصار القلق ينخر عظم الأيام والعمر، وأصبح انتقال الإنسان من موقف إلى موقف مضاد، ومن موقع إلى موقع مضاد، ومن قيمة إلى قيمة مضادة، أسهل من غسل الوجه في الصباح، وأسرع من لمح البصر، إذا افترضنا أن الأبصار ما زالت تملك قدرة اللمح.
كل هذا وأكثر منه مما لا تستطيع المراقبة أن تحصي، ولا اللغة أن تسعف، يسمى ضرورة العصر والتطور، والمتغيرات التكنولوجية الكبرى والصغرى!
فكم هي عجيبة سيكولوجية هذا الإنسان في هذا الزمن العجيب!