كانت أسباب الخلافات بين الدول في الماضي تدور حول مشاكل الحدود، وحسابات النفوذ والهيمنة الدينية والاقتصادية والسياسية، وتباين المواقف إزاء الأحداث العالمية. اليوم أضيف لهذه الأسباب سبب جديد قد يكون أخطر منها جميعاً، وهو سلوك الشعوب في وسائل التواصل الاجتماعي! كانت الخلافات تولد في بيوت الاقتصاديين ورجال الدين في الغالب، وتكبر في قصور النخب السياسية، ويشتد عودها في الجبهات بالقرب من مخادع العسكريين.

أما اليوم فقد أصبحت الخلافات تولد وتكبر بين مُعرفات وحسابات وهمية وغير وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم يتلقفها موظفو السلك الدبلوماسي ورجال السياسة، فيصنعون منها أزمة سياسية قد تنتهي بقطيعة سياسية بين دولتين كان يجمعهما الاحترام والمصالح المشتركة. قبل مائة عام تقريباً، وقبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي بعشرات السنين، قال الشاعر الفرنسي «بول فاليري» في وصف الحرب، إنها مجزرة تحدث بين أناس لا يعرفون بعضهم (يقصد الضحايا من الجنود) لحساب أناس يعرفون بعضهم (يقصد السياسيين والدبلوماسيين) ولا يقتلون بعضهم البعض!

كان فاليري يؤمن بمثل ما كنا نؤمن به قبل سنوات قليلة: لا خلافات ولا سوء تفاهم بين الدول ولا حروبٌ لاحقة، ما لم يكن للناس (الذين يعرفون بعضهم) يد في ذلك! السياسيون هم من يصنعون الخلافات ويقيمون الحروب، والمواطنون البسطاء هم من يكتوون بنارها.

لكن الأحوال تغيرت بعد اندفاع الشعوب للمنابر الإعلامية، وسقوط نظرية «حارس البوابة» التي طالما أُشبعت بحثاً في أدبيات الاتصال خلال العقود الماضية، إلى درجة أن بعض عرابي الاتصال الجماهيري وضعوها في موضع المسلمات التي جاءت إلينا بالاكتشاف لا بالاختراع! أصبح كل مواطن يمتلك وسيلته الإعلامية الخاصة التي يصل بثها إلى ما وراء الحدود.

ولم يعد تأثيره يقف عند الاتصال الشخصي أو الجمعي، بل تجاوز ذلك إلى الاتصال الجماهيري (الإعلام). وبدلاً من أن تتلقف الجماهير «الرأي الخاص» لتصنع منه «رأياً عاماً» كما كانت تسير الأمور قبل سنوات قليلة، صار كل فرد منها يسهم برأيه الخاص في المشاركة في نسج شبكة ضخمة من «الآراء الخاصة» تحاصر النخب السياسية والاقتصادية وحتى الدينية.

صار من الطبيعي اليوم أن تختلف دولتان جارتان وتتأزم العلاقة بينهما بسبب تراشق كلامي وحرب إعلامية بين شعبيهما على وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن المشكلة التي قد تكون أكبر ألماً ووجعاً وأكثر تعقيداً، أن هناك دولاً أخرى تجند عملاء لها ليلبسوا ثياب إحدى هاتين الدولتين ويبدأون في حمل هذا الطرف على ذاك لأهداف سياسية صرفة. لو كان «فاليري» بيننا اليوم لأعاد نحت مقولته الشهيرة هذه، بحيث تتسع لواقع الحال، ولكرر على مسامعنا تعريفه الشهير للسياسة، الذي ينص على أنها «منع الناس من التدخل فيما يخصهم»، ولذكّرنا كذلك بمقولته الشهيرة «يهدد العالم خطران دائمان: النظام والفوضى»، والنظام هنا خوارزمية منصات التواصل الاجتماعي، أما الفوضى فهو محتواها.

* كاتب سعودي