أعجَب من أمة العرب تناقش اليوم، بشدة وبحماسة، غياب الكتاب الورقي، وحضور الكتاب الرقمي، وتأثير ذلك على أجيالنا، ونحن أمة لا تقرأ، لا الورقي ولا الرقمي، وتخوض في مسائل تخطاها الإنسان في الغرب، ورضي بتلك المقاربة بين الرقمي والورقي، حتى تتغير بفعل قرار من الأجيال المقبلة.
لكن رغم تلك النظرة الواقعية لواقعنا العربي، دعونا هذه المرة ننظر بمنظور أخضر صديق للبيئة، ونحاول أن لا نسقط ذواتنا على مجريات حياتية في يوم المواطن العربي، ونقول إن كل ما يصاحب أمورنا قابل للتفسير الإيجابي، وقابل لأنْ نحيّد كل ما يضرها أو يعيق تطورها لصالح الإنسان والمجتمع، وأن ثمَّة أشياء جميلة في هذه الحياة، يمكنها أن تدفع بالعربي إلى الأمام.
مشروع الترجمة الضخم الذي تتبناه هيئة أبوظبي للثقافة، يمكن أن يجسّر الهوّة السحيقة بين قرّاء العربية، وقرّاء اللغات العالمية الأخرى، ويمكن أن يصنع جيلاً متواصلاً مع الآخرين، ومع مشاريعهم الفكرية الإنسانية والعلمية، ويمكن أن يضيف للمكتبة العربية الكثير، ويمكن أن يضعنا على خريطة الثقافة والتواجد الحضاري مع الآخرين، ويمنع زحف المفردات القديمة في ذهنيتنا التحريمية والتجريمية.
جائزة الشيخ زايد للإبداع والكتاب يمكن أن تحفّز الأقلام العربية على الإنتاج والعطاء والتميز الإبداعي في كل الفروع والمجالات، ويمكن أن تضمن للمبدع العربي شيئاً من العيش الكريم، والتفرغ لمشروعه الأدبي والثقافي، ويمكن أن تخلق تلك الروح التي يفتقدها العرب حيال الالتفات إلى مشروع قومي ونافع للإنسان العربي وحضارته، وحيال المشتغلين والمتعبين بالإنتاج الفكري والحضاري، والذين يشعرون بمعاداة الأنظمة السياسية لهم، وعدم اهتمام الحكومات بمشاريعهم التنويرية ودعمها، ويشعرون كأنهم وحدهم من يقف في ساحة الميدان كخندق أخير، يدافعون عن المجتمعات العربية مانعين عنها التطرف والنقمة الاجتماعية وعدم المسؤولية واللامبالاة.
إن مشاريع عربية مماثلة في بلدان عربية مختلفة، مثل جائزة «البوكر» العربية وغيرها، يمكن أن تخدم المشروع النهضوي العربي الكبير، ذلك الحلم البعيد والقديم، مثل مشاريع تعتني بالشباب والتعليم والسكن الاجتماعي واستصلاح الأراضي الزراعية، يمكنها أن تجذب شريحة كبيرة من الشباب العربي لأعمال نافعة تخدمهم كأفراد وكمجتمع، وتبعدهم، وتحمي المجتمع من الضياع والفراغ والهجرة نحو الشمال الأوروبي والأميركي البارد.
إن استثمار المال العربي في الداخل، وضمن مشاريع وبرامج اقتصادية واعدة، يمكن أن يقضي على البطالة في حدها الأدنى، ويفتح مجالات للتنمية والعمل، كما أن تنشيط العملية التعليمية، وتشجيع البحث العلمي والدراسات، وعدم احتقار الفكر، واحتكار المعرفة، يمكن أن تجعل من الأجيال القادمة أكثر نفعاً وقيمة للتخطيط المستقبلي، وتقديس الوقت والتعب على الذات.
إن الاهتمام بالريف والمناطق النائية والبعيدة عن العواصم العربية، يمكن أن يرفد المجتمع المدني بفوائد جمّة لا تحصى، ويمكنه أن يلغي الفروق الاجتماعية والثقافية بين أفراد المجتمع، ويجعلهم على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، من تحصيل علمي واهتمام اجتماعي، ويخفف الهجرة الإجبارية والنزوح إلى المدن وتفريغ القرى، دون التسلح بالأدوات الضرورية للعيش في العواصم أو المدن، الأمر الذي يجعل الجريمة تكبر والبطالة تكثر والفقر والمرض والجهل تزداد، والمدينة تتضخم بفوضى غير قابلة للإصلاح، وبتشويه متراكم في العمارة والتخطيط وجماليات الحياة.
في الوطن العربي الكثير من المشاريع لو أُحسِن توجيهها واستثمارها لعادت بالخير الوفير على الإنسان والأوطان.
يكفي أن أشير إلى دور اليونسكو في الوطن العربي، من خلال مشروعاتها التي يتم بها الحفاظ على التراث الثقافي والشفاهي والمباني التاريخية والآثار، مشروع المجلس القومي الأعلى للثقافة في مصر، من خلال الترجمات والنشر ودعم إبداع الشباب، وتشييد قصور الثقافة في القرى البعيدة، كذا دور المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وعمله الرائد في دعم الثقافة العربية، جائزة العويس الثقافية، ودعمها للكتّاب والأدباء والمؤلفين العرب، ممن أفنوا أعمارهم في خدمة الثقافة والحضارة العربية، ثمّة أشياء كثيرة مفرحة وواعدة في الوطن العربي، حاولنا أن ننظر لها من خلال منظار أخضر صديق للبيئة، وقابل للتفاؤل، ومزيد من الفرح.