أظهرت تفاعلات حرب إسرائيل -غزّة وعملية البحث عن «تهدئة» أو «هدنة» تحوّلاتٍ في مواقف الولايات المتحدة وأوروبا، ولهجةً جديدة استخدمتها الصين وروسيا في مجلس الأمن.

خلافاً لأعوام طويلة ماضية لم يكن هناك تعارض بين الموقفين الأميركي والأوروبي، بل تناغم واضح، خصوصاً في اعتراف الرئيس جو بايدن أولاً بـ«حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها» قبل أن يبدأ بطرح مبدأ «وقف العنف» من الجهتين. ويعكس هذا التناغم وجود رغبة في مواصلة إنعاش التحالف عبر الأطلسي الذي اهتزّ في عهد دونالد ترامب. وقد مثّلت مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في فيينا أُولى الخطوات في هذا المسار، وهناك تحليلات دبلوماسية ترى ارتباطاً ولو غير مباشر بين حرب غزّة وتلك المفاوضات، تحديداً في الصراع الاستخباراتي الناشب بين إيران وإسرائيل.
عندما بدأت الإدارة الأميركية تشير إلى أفكار تُناقش مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية وعواصم أخرى في المنطقة من أجل تهدئة مستدامة، وبالأخص في ما يتعلّق بالقدس والأماكن المقدّسة وملف حي الشيخ جرّاح (ربطاً بالوضع في غزّة)، لم تكن هناك مواكبة أوروبية موازية أو سبّاقة، بل واصلت ألمانيا والنمسا والمجر تشديدها على دعم إسرائيل. في العادة كان الأوروبيون ينبّهون إلى ضرورة استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وما إلى ذلك، لكن هذه المرّة كان واضحاً أنهم يدعمون اتصالات إدارة بايدن. وحين نسّقت فرنسا مع مصر والأردن لتتقدّم بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، كانت قد أخذت علماً بأن واشنطن اقتربت من الحصول على موافقة إسرائيلية على وقف إطلاق النار، وأرادت الوقوف بين أميركا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، لكن فشل مسعاها لم يتسبّب بأزمة مع واشنطن.
لم تقل باريس ولا برلين أو سواهما إن لديها مقاربةً جديدةً لملف الشرق الأوسط، إلا أن التغيير في المواقف كان واضحاً ويحتاج إلى تفسير. يذكّر بعض التقارير بأن الأوروبيين غلّبوا، كما في الحروب السابقة في غزّة، الاعتبارات الإنسانية وحماية المدنيين، ولم يكونوا في أي مرّة مدافعين عن حركة «حماس».

أما عدم تحمسهم لأي أطروحات بالنسبة للمرحلة المقبلة فيُعزى خصوصاً إلى أن الملف الفلسطيني ليس في أولويات الإدارة الأميركية، لكن الجميع فوجئوا بتصاعد العنف الإسرائيلي في القدس ثم بتفجّر الحرب في غزّة. ونظراً إلى التداعيات، لم يعد ممكناً ترك هذا الملف للمفاجآت، إذ أن صراع الأجنحة في «الحزب الديمقراطي» راح يشكّل ضغطاً على بايدن شخصياً حتى في الكونغرس، كما أن قطاعات عدّة من الرأي العام والإعلام الأميركيَّين تعاطفت مع الفلسطينيين وقضيتهم.
قبل وقف إطلاق النار طرحت موسكو تفعيل «الرباعية الدولية» المجمدّة، ودعت بكين للعودة إلى التفاوض، فيما راحت المواقف الدولية، بما فيها الأميركية، تجدّد التزام «حل الدولتين» والوضع الراهن للحرم الشريف، أو «ضرورة عمل قادة المنطقة لإيجاد حلّ دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني يمنع الإرهاب ويضع حدّاً لدوامة العنف» بحسب صياغة رئيس الوزراء البريطاني.

ولعل الإشارة إلى الإرهاب، بما اختزنته الأعوام الأخيرة في سوريا والعراق وحتى انعكاساته على المجتمعات الأوروبية، يمكن أن تفسّر «اللهجة الأوروبية الأكثر ودّية»، كما وصفتها «فورين بوليسي»، تجاه إسرائيل في الأزمة الأخيرة. تضاف إلى ذلك متغيّرات في المصالح نجمت عن موجات اللجوء والصراع الذي أشعلته تركيا في شرق المتوسّط.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن