هنري أولسن*
مرة أخرى تعثرت الاقتصاديات الأوروبية في ركود بعد أن أدت عمليات الإغلاق والإجراءات الأخرى للتصدي للجائحة إلى كبح الاقتصاد بشكل أكبر. ومع نفاد صبر الناخبين قد تكون هذه آخر فرصة يتعين على الحكومات فيها تجنب صعود الشعبوية. وقد عانت معظم دول الاتحاد الأوروبي من ردود فعل سياسية مشابهة على الجائحة وأثرها الاقتصادي السلبي. فقد شهد معظم الزعماء وأحزابهم تحسناً، في بداية الأمر، في أرقام استطلاعات الرأي، كما لو أن هذا نسخة أوروبية من ظاهرة «الالتفاف حول العلم» التي تظهر غالباً في الولايات المتحدة في وقت الأزمات. وهذا التحسن في التأييد استمر على امتداد الصيف الماضي مع خروج اقتصاديات الاتحاد الأوروبي من الإغلاق. فقد تمسك الناخبون بقياداتهم مع مرور القارة بموجة ثانية من وباء «كوفيد-19» خلال الخريف والشتاء الماضيين. وبلغت الحالات القمة في نوفمبر وبدأت تتراجع. وبدا الأمر كما لو أن الحكومات استطاعت مرة أخرى إبقاء الأزمة تحت السيطرة بشكل مقبول. لكن التصور العام بدأ يتغير حين بدأت الحالات تتصاعد من جديد. فقد فرضت دولة تلو الأخرى المزيد من الإغلاقات، ولم يساعد التطبيق الشاق للبرنامج المنسق لتوزيع اللقاحات على مستوى أوروبا في تسريع تخطي الأزمة. وفي الوقت نفسه استطاعت المملكة المتحدة- بعد تحررها من سياسات التكتل منذ بريكسيت- تحقيق واحدة من أكثر عمليات توزيع اللقاحات نجاحاً في العالم رغم أنها عانت من إجراءات إغلاق صارمة. وتدهورت معنويات الأوروبيين حين نظروا عبر القنال الإنجليزي وشاهدوا انتعاش زملائهم السابقين في التكتل. وهذا يفسر التحولات في استطلاعات الرأي. فقد أصبحت نظرة البريطانيين أكثر إيجابية الآن لرئيس الوزراء بوريس جونسون الذي عانى من تراجع التأييد له أثناء استشراء الجائحة. وحزب المحافظين الحاكم الذي كان يسير بموازاة حزب العمال المعارض أثناء احتفالات الكريسماس، أصبح الآن يتقدم على خصمه اليساري بتسع نقاط في متوسط لاستطلاعات الرأي جمعها موقع «بوليتكو» للتحليلات السياسية. وحتى نهاية يناير الماضي، كان حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يحتل المرتبة الأولى متقدماً بفارق 17 نقطة على حزب الخضر. ثم فقد حزب ميركل ثلث الدعم له تقريباً في متوسطات استطلاعات الرأي. والآن أصبح في مرتبة تالية لحزب الخضر، مع استعداد ألمانيا لانتخابات سبتمبر المقبل. ونتائج استطلاعات الرأي في مناطق أخرى من أوروبا ليست بمثل هذه الفوارق الشديدة كما في ألمانيا، لكنها ليست مشجعة أيضاً للأحزاب الحاكمة. فقد انخفضت معدلات التأييد للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ست نقاط منذ يناير لتصل إلى 37%. وحزب «آنو» الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء التشيكي أندرية بابيك خسر تقريباً ربع الدعم له منذ مايو الماضي، وهناك تصاعد في الدعم لجماعة «إس. بي. دي.» اليمينية الشعبوية وائتلاف «القراصنة ورؤساء البلديات» الشعبوي اليساري. وشهدت الأحزاب الحاكمة في المجر وبولندا المتضررتين بشدة تراجعاً في معدلات التأييد لهما، بينما ظلت استطلاعات الرأي مستقرة نسبياً في دول متضررة بشدة أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا. وهذا الاستقرار لن يدوم على الأرجح إذا لم تفتح حكومات الاتحاد الأوروبي من جديد اقتصادها بحلول الشتاء. فالأزمات الاقتصادية السابقة، مثل الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي والركود الكبير عام 2008، تؤدي إلى مساندة الناخبين للحكومات في وقت مبكر، ثم يتخلون عنها في العام الثاني أو الثالث. فقد أدى الكساد الكبير إلى اكتساح فرانكلين روزفليت انتخابات عام 1932 وإلى انتخاب حكومات ذات ميول يسارية في فرنسا وكندا ونيوزيلندا والدول الاسكندنافية. وانهارت الديمقراطيات الضعيفة تماماً، وكان سقوط ألمانيا في يدي أدولف هتلر أبرز الأمثلة. وقلبت أزمة 2008 السياسة رأساً على عقب في بعض دول أوروبا الأكثر تضرراً مثل أيرلندا واليونان وإسبانيا، وزادت الدعم للأحزاب الشعبوية في كل مكان آخر. والصعود الكبير بعد عام 2010 لكل من القومية الاسكتلندية والإنجليزية مما تجلى في صعود الحزب القومي الاسكتلندي وبريكسيت، يمكن إرجاعه إلى سوء إدارة الأزمة الاقتصادية وتقلص الثقة العامة في النخب القديمة. ويوحي التاريخ بأن هناك شيئاً مشابهاً سيحدث في أنحاء أوروبا إذا عانت القارة موجة رابعةً. وسيبدأ الناس في فقدان الإيمان بالزعماء الحاليين. وسيتطلع الناخبون لوجوه جديدة وعدت باتباع مناهج جديدة. وليس من المهم أن تحظى هذه المناهج الجديدة باتفاق آراء النخب، بل عدم تأييدها منهم سيكون دعماً سياسياً لها على الأرجح. فإذا لم تعجب الذين فشلوا، فلابد أنها تستحق المحاولة. وهذا سيكون من حسن طالع الشعبويين الأوروبيين. فالدول تشهد دعماً لأحزاب اليسار واليمين الشعبوية التي ظلت محافظة على صمودها أو تحقق صعوداً. وهذه الأحزاب ستكون المستفيد الطبيعي من الغضب من أزمة لا تنتهي. *باحث بارز في «مركز الأخلاقيات والسياسة العامة» البحثي -واشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس» أوروبا تسير ببطء نحو التعافي، لكنها ما لم تستعد حياة ما قبل الجائحة فقد تكون مقبلةً على فترة شديدة الاضطراب
     
For Publishing 
1324x787 
1016.51KB