آه.. من ذلك العطر الذي تضوعت به بواقي المدن، واهبة إياي ساعات من السعادة، تمنّيتُ لو أنها كانت تطول مثل دهر؛
ـ بيروت: في شتائها الجميل في منزل صخري، كأنه نحت من ضلوع جبل، بتلك المدفأة التي تبعث رائحة احتراق الحطب، وفرقعة الكستناء، دفء الألفة للجلسة المنزلية، وأصدقاء أحِمّاء جاؤوا من زوايا متباعدة، جالبين معهم ما تورثه الأسفار البعيدة، وما يخزّنه الحنين، كانت ضحكات من الخاطر، أصداؤها قلوب الأصدقاء، وكانت هناك امرأة غادرتنا وأشعلتنا، ونسيت عطرها في المكان.
ـ القدس: هي المدينة الوحيدة التي جعلتني أفقد التوازن حينما وقفت على أول تلالها، والأذن لا تصدق، والعين تكذب، والنفس سابحة في شيء لا يشبه المكان، كانت ساعتها الشمس توحي بالمغيب، ولا تدرك، هل أنت قريبٌ من السماء أم بعيدٌ عن الأرض، كانت ربكة في حواس الجسد، لا أعرف هل أجلس، أم أقف، أم أقفز، أم أصمت متأملاً؟ كانت السعادة تغمرني من كل جانب، فلم أملك إلا أن أصلي ركعتين واجبتين، وأقرأ بسم ربك الذي خلق..!
ـ القاهرة: كثيرة لحظات السعادة في القاهرة، لكن واحدة منها، تلك التي قادتني فيها الخطى إلى قبر ذلك الرجل الراقد تحت ثرى الكبرياء، شعرت بحب في ذاك المكان، وتراءى لي في الوجوه الزائرة الصدق، وكثير الوفاء، لقد بقيت صورته بالأسود والأبيض، والشيب على الفودين، والمنديل الهرمي في جيب سترته العلوي، وشموخ العربي، معلقة على جدار الطين طويلاً، وبقيت عالقة في الذاكرة أطول، وأذكر أنني بكيته بدمع طفولي يوم الفاجعة، ومشيت في جنازته المقامة، وشعرت بفقد عائلي، وبيتم، وبظلام أزرق، فقط حين ألقيت عليه السلام، ارتاحت النفس، وغدت مطمئنة!
ـ صنعاء: لها تربة ما زالت من غبرة التاريخ، ولها قصص تسطر بحروف الأولين، ولها محبة تحضرها معك، دخلتها من أبوابها السبعة، فيها عطر من أروى، ومسك من بلقيس، صنعاء.. ولا تحتاج أن يطول السفر، فيها فقط شعرت كم هي الفطرة مسعدة، وليتني كنت راعياً في جبل أو سهل أو في وهاد، لا تردك إلا إذا ما الشمس غربت أو سمعت غناء بنت العم الرعوي أو قادتك ماشيتك ورعيك للبيت الحجري، صنعاء، وشيء من الضلوع تكسر!
ـ مراكش: لها شيء من العين، وفي العين، تدخلها وكأنك في عرس أسطوري، تتناقلك الأشياء في حضرة حراسها الرجال السبعة، كدرويش انقطع به نسله الأندلسي هناك، يجوس أزقتها، وتجلسه عصاه بين دكان عطّار وحانوت ورّاق، تسري به همهمات الصوفية، كطائر من نور، ينشد قطباً من المعرفة، والتجلي، لكنه وإن غاب يعود، متسربلاً بالحكايات، وسِفر الأسفَار، يعود لتلك المدينة الحمراء التي يحرسها سبعة رجال، متمنياً ليته كان واحداً منهم، مستدفئاً بظل نخلة من نخيلها!