في الأسبوع الماضي خسر المتعاملون في الأسواق الأميركية والأوروبية جزءاً كبيراً من مدخراتهم بعد عملية تصحيح مؤلمة سبق وأن أشرنا إلى إمكانية حدوثها، ففقدت بعض الأسهم 50% من قيمتها، حيث يتطلب الأمر وقفة لمعرفة بعض الأسباب التي قادت إلى ذلك التراجع الحاد، أي هل يرتبط ذلك بعوامل موضوعية تتعلق بالسوق فقط؟ أم أن هناك عوامل أخرى تؤدي إلى تركز الثروات بفضل التقدم التقني السريع للعمل بأساليب غامضة.
بالتأكيد هناك عوامل موضوعية تتعلق بأداء الشركات وبحجم المضاربات التي تؤدي إلى تقلبات كبيرة في الأسواق خلال فترات زمنية قصيرة، إلا أننا سنركز هنا على الأساليب الملتوية غير الموضوعية والتي لا علاقة لها بأساسيات السوق.
لنأخذ في هذا الصدد الأساليب التي اتبعها «ايلون ماسك»، مؤسس شركة «تسلا» للسيارات الكهربائية وشركة «سبيس اكس» وشركة التداول النقدي «باي بال» و«سولار سيتي» و«هايبرلوب» المختصة بالنقل فائق السرعة، حيث استحوذ ماسك على ثروات طائلة، وبالأخص من صغار المستثمرين، إذ أعلن بداية العام الجاري أنه وشركاته سوف يستثمرون مليار ونصف المليار دولار في العملة الرقمية «البيتكوين»، وأن شركة تسلا المدرجة في السوق الأميركية سوف تبيع سياراتها بنفس العملة في المستقبل، مما أدى إلى ارتفاع عملة البيتكوين وتضاعف سعرها مرتين من 20 ألف دولار للوحدة إلى 60 ألف دولار، إلا أنه عاد الأسبوع الماضي ليصرّح بأنه لن يقوم ببيع تسلا بالبيتكوين! مما أفقد هذه العملة بمعدل الثلث إلى 40 ألف دولار، خصوصاً بعد أن قام ماسك وشركاته، كما يعتقد، ببيع هذه العملة عند سعر 60 ألف دولار وحققوا أرباحاً خيالية!
وقبل ذلك صرح ماسك أيضاً أنه سوف يقوم بإنتاج أول سيارة بقيادة ذاتية، مما أدى إلى تضاعف سهم شركة تسلا قبل أن يهوي بنسبة 20% خلال يومين، وذلك قبل أن يعود مؤخراً ليصرّح بأن شركته سوف لن تتمكن من إنتاج سيارة بقيادة ذاتية هذا العام، مما أدى إلى تدهور سعر السهم إلى 560 دولاراً! ومرة أخرى يحقق هو وشركاته أرباحاً خيالية ليتحول إلى ثاني أغنى رجل في العالم بثروة تبلغ 150 مليار دولار.
وإذا كان جزء من التلاعب يخص عملة البيتكوين التي لا تحكمها القوانين، فالغريب أن الجزء الآخر من عمليات التلاعب هذه يحدث في شركة تسلا المدرجة في أكبر وأهم سوق مالية في العالم تتميز بالشفافية والقوانين الصارمة التي تمنع التلاعب واستغلال المناصب الإدارية وإطلاق التصريحات التي تؤثر في أسعار الأسهم. ومع ذلك فلا محاسبة تتم، وكأن الأمر طبيعي، رغم فقدان ملايين الناس لمدخراتهم التي ذهبت لخزائن ماسك وشركاته.. كيف يحدث ذلك في السوق الأميركية بكل هذه السهولة من خلال تسريب الأخبار من قبل المالكين واستغلالها لجني الأرباح.. حيث يفترض تدخل القضاء، فالقانون الأميركي واضح ومتشدد في عمليات التلاعب واستغلال المناصب، خصوصاً وأن ماسك أعجبته اللعبة فصرّح بعد أزمة البيتكوين بأنه سيتفق مع عملة رقمية أخرى «دوغ كوين» لتنظيم رحلات إلى الفضاء!
وفي نفس هذا الاتجاه يعمل العديد من أصحاب الشركات، بما فيها بعض شركات التقنيات الحديثة والتجارة الإلكترونية، كمالك شركة «أمازون»، جيف بيزس الذي فقد نصف ثروته بسبب الانفصال عن زوجته، وهو يحاول الآن بشتى الطرق تعويض ذلك، أي أن اللاعبين في البورصة الأميركية يزداد عددهم، وهو ما سيسيء أكثر إلى سمعة السوق إذا لم تطبّق القوانين المعتمدة هناك.
ويبقى أن الأمر الخطير في هذا التوجه يتمحور حول تدمير الطبقة الوسطى في المجتمع والمكونة أساساً من المهنيين، كالأطباء والمهندسين والمحامين والاقتصاديين والضابط وصغار التجار.. والذين يشكلون صمام أمان لاستقرار المجتمع وأمنه، لكنهم يتعرضون للإفقار بسبب تركز الثروات في أيدي فئة قليلة، مما يتطلب من المستثمرين الأجانب، وبالأخص الخليجيين، تجنّب الوقوع بالفخ والتعرض لعمليات نصب مدروسة، علماً بأن السوق المالية الأميركية مهمة وتوفر فرصاً استثمارية مجدية يمكن استغلالها بالتعامل معها بعقلانية وحذر. 

*مستشار وخبير اقتصادي