لن تحتاج إلى غرف سرية والقفز على أبواب مغلقة لقراءة تقارير استخبارية تعلم منذ شهور أنه في حال خسارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية، فإن «الديمقراطيين» في الولايات المتحدة مضطرون لمواجهة قاسية مع إيران وأن توضح تلك التقارير أن إيران قد بدأت منذ ذلك الوقت التحضير لتلك المواجهة ومن ضمنها استعداد «حماس» للتدخل عند «لحظة الصفر» وسماع كلمة السر «فيينا».
لم يكن سهلا تأكيد تلك الحقيقة دون حادثة سياسية تربط الحلقات المفقودة في سلسلة واحدة، فحين تبين للنمسا أن «حماس» تطلق أكثر من 2000 صاروخ على مواقع مدنية في إسرائيل، قامت برفع العلم الإسرائيلي على مبانيها، ما دفع محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، إلى إلغاء زيارته لوزير الخارجية النمساوي، فعرف الجميع أن إيران قد استخدمت هذه الورقة لشكر «حماس» ودفع ثمن المشاركة، وكذلك لمحاولة الحصول على التعاطف العربي والإسلامي.
قد لا اتفق مع الرأي السياسي القائل إن الإدارة الأميركية تجد حرجاً شديداً في الافراج عن خططها تجاه الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران، وأنها تمارس التعتيم الإعلامي الذي يرفضه معظم الأميركيين، بل يميل الرأي أن «الديمقراطيين» لا يملكون حتى اللحظة رؤية وخطة واضحة المعالم تجاه إيران، ليس السبب بالطبع هو التخبط بقدر أنه خلال عام 2020 كانت الفرق الاستكشافية والاستخبارية والبحثية الإيرانية تضع البدائل والمقترحات المختلفة للمسارين اللذين ستتمخض عن احدهما الانتخابات الأميركية بينما كان الجميع في الولايات المتحدة، ودون استثناء، مشغولاً بتلك الانتخابات حتى النخاع، ومشغولاً أيضاً بجائحة كورونا، وتمددها في الولايات المتحدة، في وقت لم تكن فيه إيران تعير تلك الجائحة أدنى درجة من الاهتمام.
الملخص أن قيادة الدول عموماً مضطرة لاتباع نهجين لا ثالث لهما، إما القيادة التي تستند على التخطيط المسبق أو القيادة التي تضطر إلى الاستجابة كردود فعل على الأحداث والمواقف الطارئة والعاجلة، ويبدو أن الإيرانيين قد استفادوا من الوقت المتاح خلال عام 2020 للتخطيط أن تظل الإدارة الأميركية القادمة بعد الانتخابات مشغولة بشكل دائم برد الفعل على كل تصرف وسلوك إيراني، فنشطت التصريحات والبيانات الإيرانية منذ 20 يناير 2021 حول الاتفاق النووي لمحاصرة القرار الأميركي وإبعاده قدر المستطاع عن الرؤية الشاملة للشرق الأوسط بل ودفعه لعدم التفكير طويلاً في الأحداث الاستراتيجية، التي جرت في سبتمبر، 2020 حين وقعت الإمارات والبحرين اتفاقية السلام مع إسرائيل وعن أهميتها التاريخية من النواحي الإنسانية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.
لا نريد، بطريقة أو بأخرى، اظهار أن الإيرانيين هم الأكثر ذكاء وتخطيطاً، فلو كان هذا حالهم لما وصلت بلادهم إلى ذلك المنحنى الخطير خلال السنوات الخمس الأخيرة، لكن المعروف أنهم استغلاليون، فتفرغوا بما لديهم من وقت وطاقة للتركيز على ما يمكنهم تقديمه لجرجرة الأميركيين إلى فيينا واشغالهم على مدار الساعة عن الحقيقة الكبرى الاستراتيجية بأن الشرق الأوسط ما عاد هو نفس المكان الذي كان يراه الرئيس الأميركي الأسبق أوباما، أو أي رئيس أميركي «ديمقراطي» سابق.
ما يريده الإيرانيون هو شيء واحد فقط، أن الإدارة الأميركية الحالية يجب ألا تتوقف للحظة واحدة لتسأل: ماذا لو قررت أميركا مواصلة نهج الرئيس الأميركي السابق في معاقبة الإيرانيين وعدم العودة للاتفاق النووي وعدم السماح لإيران بالتنفس قبل أن ترضخ بتفكيك برنامجها النووي والصاروخي والتوقف عن دعم الميليشيات والأذرع الإرهابية في دول الشرق الأوسط؟!؟ وماذا لو تفطن «الديمقراطيون» لأهمية المسار الجديد الذي يذهب إليه الشرق الأوسط بتحقيق سلام عادل يُرضي جميع الأطراف ويبدأ بحل الدولتين، ويتم خلاله أيضا توقيع اتفاقيات سلام شاملة مع الدول العربية وعودة الأمن والسلم بتحييد إيران إلى أقصى درجة ممكنة؟
الخدعة الإيرانية التي طالت هذه المرة لا تتوقف عند إلهاء وجرجرة الأميركيين للعودة للاتفاق، ورفع العقوبات، بل تتضمن أيضاً، وضع ما يسمى بشروط الانقضاء في الاتفاق الجديد، وشروط الانقضاء هذه تعني تحديد جدول زمني لوقف تقييد البرنامج النووي الإيراني ما يسمح لإيران بعد انقضائها بتشغيل أجهزة الطرد المركزي وتخصيب اليورانيوم بأي مستوى. وقد يعفي المواقع العسكرية الإيرانية من التفتيش، ولو نجحت إيران في ذلك، دون وجود وموافقة جميع الحلفاء في المنطقة، فإن الإدارة الأميركية لن تكون قد عادت للاتفاق النووي فحسب، بل ستكون قد وقعت على خروجها من الشرق الأوسط للأبد.

* لواء ركن طيار متقاعد