في هذه الحياة تجد شخصيات لها صفات متبادلة بين التبرع المجاني، و«الخكّة» والإرباك، لا أحد يطلب منهم، ولا المواقف تستدعي كلّ تلك الهمة والهبّة والفزّعة: كأن تكون في جلسة يتصدرها سيد القوم، تشاهدون مباراة مهمة أو برنامجاً مسلياً على شاشة كريستالية من التي تثبّت في الجدار، وبعرض سينمائي، وتحت هذه الشاشة هناك طاولة زجاجية نظيفة عليها أكثر من جهاز، واحد تلمظ عينه الحمراء، وآخر تبرق عينه الخضراء، ونظام صوتي منزلي متكامل، وكل المسائل مبرمجة ومنظمة حسب الحروف الهجائية وأهمية المحطات، يعني باختصار كله «ديجتال في ديجتال وسيستم» لألف قناة موزعة على بقع الدنيا، وفجأة يشعر شخص أن الصوت غير واضح بالنسبة لأذن سيد الجلسة، وهو في الحقيقة غير واضح بالنسبة له هو، ولا يخص سيد الجلسة الذي أذناه قادرتان أن تلتقطا حفحفة ورق شجر الحديقة، المهمّ يا إخوان يقوم المتبرع، ويفزّ من مكانه، ويلتقط «الريموت كنترول»، ويتبرع بتطويل «فوليم» الصوت، وبدلاً من ذلك، تضغط أصابعه على زرّ تغيير القنوات، فتتغير الشاشة، ويظهر برنامج الحياة البرّية، وحيوانات تطارد بعضها، وتنهش بعضها، فينزعج القوم، ويناظرون بعين واحدة إلى سيد الجلسة، فيلمحون في عينيه انزعاجاً، فتتحول العيون إلى المتبرع الذي يحاول جاهداً إصلاح الحال، واتقاء غضب الحضور، وإرضاء سيد القوم الذي إن غضب، له ومعه ألف سيف يغضب.
يحاول المتبرع المجاني التقاط أنفاسه مع ابتسامة في غير محلها للحضور، يضغط على زرّ جديد، ويشغّل كل أصابعه، فتظهر فجأة «واحدة» من تلك القنوات العارية إلا من «الصحة» التي تطالب السادة المشاهدين أن يتصلوا بالفتاة العربية «المنحطة، الساقطة» - هكذا تظهر الترجمة العربية على الشاشة مع ستين سهماً، وأرقام طويلة لا تعرف تابعة لأي بلد- والتي تتلوى وجداً وعشقاً، وهياماً، والتي في غاية الشوق للدردشة أنصاف الليالي، مع أشخاص عرب أقحاح تعرفهم من أعلامهم «خضر مرابعنا، بيض صنائعنا، سود مواقعنا، حمر مواضينا» فيتصايح القوم، وكلهم في نفس واحد: شو سويت.. شو تسوي؟!
والحبيب يجرب أزراراً يريد منها العود الحميد، والمسعى المجيد، ولكن هيهات، تحولت الشاشة إلى وميض لا ينقطع، وأصبح من في الجلسة يشاهدون صديقنا المتبرع بدلاً من ذلك البرنامج، وهو يقلّب ويحاول الضبط، ولا قادر أن يتخلص من «الريموت كنترول» الذي لصق في يده، ويريد الاعتذار، ويريد أن يخرج ولا يرى وجهه مرة أخرى.
من المتبرعين و«الخكاكين»، أولئك الذين يظلون يبتسمون للمضيفات من أول دخولهم الطائرة، وكأن المضيفات مشاريع لسهرات في يوم ما، منهم من يفتح حقيبته ويخرج نظارة القراءة، وكتاب جان بول سارتر «الوجود والعدم» الذي هو بحجم قاموس «لاروس» أو دليل الهواتف في مدينة بكين، والذي سألت عنه أول ما وطأت قدماي الصين قبل ثماني عشرة سنة، فقط لأعرف كم حجمه بالضبط!