في أحد أهم المشاهد التي تلخص رؤية صانعي الفيلم السينمائي الشهير (Kingdom of Heaven) الذي أخرجه برادلي سكوت ومن إنتاج عام 2005، كان مشهد اللقاء النهائي بين «بيليان»، القائد الصليبي الفرنسي، وصلاح الدين القائد الأيوبي المسلم، المشهد بلا شك كان مكثفاً في آخر مجريات الحوار الذي اعتمد رواية تاريخية لا نجدها في كتب التاريخ الإسلامي التقليدية، وفي الحوار حسب الرواية التاريخية والفيلم، فإن بيليان بعد أن سلم القدس لصلاح الدين وقد اطمأن إلى أن الأيوبي لن يبطش بسكانها المسيحيين وقد حكمها الصليبيون تسعين سنة، قد سأل صلاح الدين وهو يهم بمغادرة خيمة المفاوضات: ما هي قيمة القدس؟ فأجابه صلاح الدين (حسب الرواية والفيلم): لا شيء.. وكل شيء.
تلك الرؤية «العلمانية» البحتة للمدينة القديمة، كثفها الشاعر الفلسطيني محمود درويش برؤية وجودية فريدة، وقد كتب عن القدس التي «في السور القديم» كما يقول فيسير «من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني»، وحسب درويش فإن «الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدس»، لكنه يقترب من جواب صلاح الدين لبيليان الفرنسي حين يقول برمزية لا تحتاج إلى كثير جهد لفك رموزها «.. كنت أَمشي فوق مُنْحَدَرٍ وأَهْجِسُ: كيف يختلف الرُّواةُ على كلام الضوء في حَجَرٍ؟ أَمِنْ حَجَر ٍشحيحِ الضوء تندلعُ الحروبُ؟».
ببساطة، فالقصة كلها تكمن في الإجابة على سؤال: من أي زاوية ترى الرواية، وأي رواية تريد؟
من أدبيات مفاوضات كامب ديفيد 2 المشهورة عام 2000، وهي روايات لم أجد توثيقاً لها، تداول الكثير رواية مفادها أن الرئيس كلنتون عرض على ياسر عرفات عرضاً «أميركياً» سخياً، وهو القبول بمنطقة «أبوديس» بدلاً عن القدس، بل وأن تعمل الولايات المتحدة على مساعدته ببناء مدينة قدس كاملة هناك! 
حسب الرواية المنقولة وغير الموثقة، فإن عرفات حينها ثار وغضب مما جعل الرئيس كلنتون ينفعل بدوره فيقول: وماذا في ذلك؟ لديّ في أميركا عشر مدن تحت اسم «جيروسالم»!
تلك رؤية أميركية تعرضت للتجديد والتحديث بعد كثير من خوض تعقيدات الفهم عبر إدارات متعاقبة وأزمات كثيرة، والرؤية المقابلة بين طرفي النزاع تحديداً العربي والإسرائيلي تحمل إرثاً تاريخياً ثقيلاً يأخذ مساحة واسعة على طاولة الحوار إلى حد سد الحوار نفسه.
في أحداث حي الشيخ جراح الأخيرة والواضحة بملابساتها كقضية، كنا أمام مقاومة إنسانية فلسطينية نوعية واضحة ومحددة لا التباسات في مطالبها، ولا ضبابية في إنسانيتها وتمدنها، وثقتها المفرطة التي صاغها صانعوها بعفوية وتحولت إلى منهجية مبهرة.
بعد ذلك..وكالعادة، دخلت الالتباسات واقتحم الضباب الكثيف والسواتر الدخانية كل المشهد وتخلخلت الثقة وراحت العفوية وغاب الانبهار، وتم إعادة اختطاف «المقاومة» من جديد ولأجل غير مسمى.
ما سيحدث بعد ذلك كثير في قادم الأيام، ومن ذلك أن الداخل الإسرائيلي تعرض لهزة عنيفة كفيلة بزحزحة المواقف بقوة نحو الأطراف، وإعادة الحسابات بما يتوافق مع الواقع لا الأوهام (وهذا سينسحب على الجميع لاحقاً).
لكن وفي كل الأحوال التي حدثت وتحدث في شرق المتوسط، فإن ما حدث في القدس وانتهى في غزة كانت فاتورته بتكلفة غالية ودموية مؤسفة وباهظة لتعديل المزاج الإسرائيلي في انتخابات قادمة وشيكة.