كثيراً ما نقرأ ونتابع آراء تدّعي بأن من يريد توحيد بلدين يجب عليه ألا يطالب بتقسيم بلد آخر، ويتبين أن أصحاب هذه الآراء يؤمنون بأن فكرة الوحدة والتقسيم هي مبدأ وليست ضرورة، وأنها تستند إلى العاطفة وليس إلى العقل، وأن كل الأشياء والتاريخ والدول والجغرافيا تتشابه وأن العالم له لون واحد.
تفكك الاتحاد السوفييتي في العام 1991 والوحدة الأوروبية في العام 1992 هما الدليل الأقوى على أن المصالح العليا هي المقياس الأول الذي يمكن من خلاله فهم ضرورة الوحدة أو التقسيم أو التحالف، فحين استحالت المصالح المشتركة لقوميات يوغسلافيا في عام 2006 مثلاً تحولت إلى خمس دول، وكذلك الأمر في تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتي التشيك والسلوفاك، ولكن في المقابل فإن المصالح العليا أدت أيضاً إلى توحيد سبع إمارات تحت علم دولة الإمارات العربية المتحدة في العام 1971 والذي جعل منها دولة واحدة قوية موحدة.
حين تصبح الدولة بسبب جغرافيتها أو اختلاف قومياتها العرقية عاجزة عن تلبية المتطلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أو عن قدرتها للتحرك كقوة واحدة في الواقع الجيوسياسي الذي تعيش فيه والنظام الإقليمي والدولي حولها، والعجز عن توحيد قيمها الحضارية والإنسانية واستثمار مواردها الطبيعية، فإن علوم السياسة تقتضي طرح فكرة تقسيمها سياسياً وجغرافياً واجتماعياً، إذا ضمنت كل وحدة سياسية فيها أن تكون قوة لوحدها قادرة على تحقيق التكامل وفرض مكانتها الدولية.
الشاهد هو ما يؤسس لقوة الدولة، فإذا كان الاتحاد يؤدي إلى زيادة قوة الدولة بزيادة قدراتها الحيوية والاقتصادية والعسكرية والسياسية وزيادة تحقيق الأهداف الاستراتيجية وتقوية شبكة العلاقات الدولية والصداقات والتحالفات، حسب مقاييس ومؤشرات قوة الدولة مادياً ومعنوياً، فإن الاتحاد يصبح هو المشروع الأمثل لرفع درجة أهمية دولة الاتحاد، وزيادة وزنها الدولي والإقليمي.
إذا كانت الوحدة بين دولتين أو أقاليم ضد الإرادة القومية وتؤدي إلى إضعاف الدولة وإضعاف قدراتها الحيوية وتمنع تحقيق الأهداف الاستراتيجية سواء بسبب الاختلاف الديموغرافي أو الأيديولوجي، ويؤدي أيضاً إلى تراجع الاقتصاد وإضعاف شبكة العلاقات الدولية والإخلال في موازين القوى بسبب تضارب المصالح، فإن الوحدة هنا تصبح مشروعاً قد حُكم عليه بالفشل في مهده.
الحديث هنا ليس عن فئات صغيرة من الشعب ترغب في الوحدة، بينما الغالبية ترفض ذلك، وليس أيضاً عن فئات انفصالية صغيرة حجماً ونوعاً ترغب بالانفصال عن وطنها وكيانها السياسي، كما هو مفصل في كتاب العالم السياسي «احسان بات» بعنوان «الانفصال والأمن»، الذي رأى فيه أن الدول تستجيب بعنف للحركات الانفصالية إذا كانت الدولة المحتمَلة ستشكل تهديداً أكبر حجماً مما تشكله الحركة الانفصالية العنيفة، تدرك البلاد احتمال وقوع حرب مستقبلية مع الدولة الجديدة المحتملة إذا كانت المجموعة الإثنية التي تقود الصراع الانفصالي ذات هوية منفصلة بشكل عميق عن هوية الدولة المركزية، وإذا كانت الدولة المجاورة عنيفةً وغير مستقرة.
لا نستطيع اليوم، مثلاً، تقييم طلب الحزب القومي الإسكتلندي بانفصال إسكتلندا عن المملكة المتحدة بناء على الرأي العاطفي، فخلال الاستفتاء على الانفصال في عام 2014 رفض الإسكتلنديون الانفصال عن المملكة المتحدة، ولكن صوّت أكثر من 55% على عدم الخروج من الاتحاد الأوروبي ومع ذلك خرجت بريطانيا من الاتحاد، ويتكرر هذا المشهد في مناطق كثيرة في العالم لدول وأقاليم ترغب في الانفصال ودول وأقاليم تريد الوحدة والاتحاد، ويؤثر الطابع العاطفي على معظم تلك المشاريع التي تظن أن دروس التاريخ يمكنها أن تكون نسخة كربونية تصلح لكل زمان ومكان.
لا أعتقد أن أي مشروع وحدة أو تقسيم ورد في سجلات التاريخ قد يتطابق مع مشروع آخر، فالتاريخ هو أداة للمعرفة وتكرار نماذج النجاح أو الفشل في الماضي لا يعني صحة النتيجة في الوقت الحاضر أو المستقبل، فاختلاف الإحداثيات الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، واختلاف درجات العلم والمعرفة والقدرة على التنبؤ ووضع الخطط واستشراف المستقبل، هي دلالة مؤكدة على اختلاف النتائج، وأن الذي سينجح في بلد ما ليس بالضرورة أن ينجح في بلد آخر، وحتى في البلد الواحد الذي رأى في مرحلة أهمية التقسيم ثم عاد ورأى ضرورة الوحدة كألمانيا، مثلاً، التي تم تقسيمها إلى دولتين غربية وشرقية وأقيم بينهما جدار عازل، ثم سقط الجدار وعادت ألمانيا دولة واحدة قوية ومتفوقة.

عبدالله السيد الهاشمي

لواء ركن طيار متقاعد