تناولتُ في المقالتين الماضيتين بعض المؤشرات التي تؤكد الخطر على مسار التسوية السياسية في ليبيا، والواقع أن هذا الخطر كان بادياً للوهلة الأولى من خريطة طريق التسوية الأممية التي لم تعط حكومة الوحدة الوطنية الحق في اتخاذ قرار بشأن الاتفاقيات التي التزمت بها حكومة السرّاج، والتي جلبت القوات التركية إلى ليبيا، ثم آلاف المرتزقة. وكان المعنى الواضح لهذا في ظل عدم تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، بضرورة خروج جميع القوات الأجنبية، أن انتخابات ديسمبر القادم سوف يسهل الانقلاب على نتائجها من قبل الميليشيات الموالية لتركيا. وعندما تحدثت وزيرة الخارجية الليبية عن ضرورة إنهاء وجود القوات الأجنبية والمرتزقة، قامت القيامة كما ظهر من بيان مجلس الدولة الذي يتبنى مقولة أن القوات التركية ليست مطالبة بالخروج لأن وجودها شرعي بموجب المذكرة الأمنية في نوفمبر2019 مع حكومة السراج، مع أن الأصوات بُحت في إثبات أن هذه المذكرة غير شرعية، ومع ذلك فالإصرار عليها مطلق لأنها الآلية التي تضمن ضبط مسار التسوية لصالح أطرافها. وقد حرص وزير الخارجية التركي، في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية الألماني في 6 مايو الجاري، على أن يؤكد هذه المعادلة المضحكة: ضرورة مغادرة جميع المقاتلين الأجانب، لكن القوات التركية موجودة بموجب اتفاق مع الحكومة الليبية!
ثم خطا مثلث القوات الأجنبية- المليشيات- المرتزقة خطوة أخطر يوم السبت الماضي، بحصار نفذته عشرات السيارات المسلحة التابعة للمليشيات لأحد مقار المجلس الرئاسي، احتجاجاً على إصداره القرار بتعيين رئيس جديد لجهاز المخابرات. وسبق هذا الاحتجاج المسلح اجتماع لقادة الميليشيات وأمراء مجموعات مسلحة شغلوا مواقع قيادية إبان حكومة السراج، وألقى عدد منهم كلمات توعدوا فيها المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، وأبدوا نيتهم حصار مقر المجلس الرئاسي ووزارتي الداخلية والخارجية للضغط من أجل التراجع عن الإطاحة برئيس المخابرات السابق. وفسرت مصادر ليبية مستقلة هذا السلوك بأن المدير الذي أُطيح به كان موالياً لهم واستخدموه لضرب خصومهم، وأن المليشيات كانت تخطط لاستخدام المخابرات في جمع معلومات وأعمال مشبوهة سعياً للفوز بانتخابات ديسمبر. كما كان الاجتماع مناسبةً لمواصلة الهجوم على وزيرة الخارجية وتأكيد الولاء لتركيا. ودعا مفتي الإخوان المليشيات للخروج في مظاهرات من أجل تقديم الشكر لتركيا ودعم بقاء قواتها في ليبيا. وهكذا تكتمل الصورة بكل وضوح، وهي أن مثلث القوات الأجنبية- المليشيات- المرتزقة، إما أن يُسَير عملية التسوية على النحو الذي يتسق ومصالحه أو ينقلب عليها، ومن ثم باتت عملية التسوية الراهنة في ليبيا تواجه خطراً حقيقياً. ففي البداية كانت الشكوك تحوم حول خريطة التسوية الأممية من منظور أنها وضعت العربة أمام الحصان؛ بمعنى أنها تبدأ خطى التسوية قبل التخلص من الوجود العسكري الأجنبي بكل أشكاله وتوحيد المؤسسة العسكرية الوطنية الليبية، لكن التطورات اللاحقة أكدت أن ثمة حصاناً جامحاً في الساحة يصر على أن يقود عربة التسوية وفق أهوائه في اتجاه منبت الصلة بالمصلحة الليبية، وما لم يتم ترويض هذا الحصان فسوف يواجه مستقبل التسوية خطراً حقيقياً، وعلى القوى الفاعلة في المجتمع الدولي أن تعلم بأن مسؤوليتها تقتضي منها أن تتعاون من أجل القضاء على الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا، بدلاً من الاكتفاء بتلك اللغة الخشبية التي تكتفي بالحديث عن ضرورة خروج القوات الأجنبية دون أن تكلف نفسها مشقة التفكير في الآليات المطلوبة للتنفيذ، ذلك لأن استسلام المجتمع الدولي لمنطق القوة سوف يغذي النزوع إلى استئناف الصراع في ليبيا.