تعجبني البرامج التلفزيونية الاجتماعية الخيرية التي تعرضها بعض القنوات التلفزيونية في شهر رمضان، والتي عبرها يتم تقديم مساعدات عينية أو مادية للأسر المتعففة وللأشخاص الذين ضاقت بهم سبل الحياة ولم يسألوا أحداً، ويزيد تقديري للعشرات الذين يقدمون الخير من دون الإفصاح عن أنفسهم، فيتاجروا بذلك مع الله قولاً وفعلاً تجارة لا تبور.
«غيث».. شاب إماراتي، لم يُظهر لنا وجهه على شاشة التلفزيون، ولم أعرف هويته إلا من لسانه. كان يسير على قدميه في شوارع وأحياء عدة دول عربية، ويلتقي بسطاء ومتعففين ليقدم لهم مساعدة ما. ذاع صيت الشاب «غيث»، والذي عرّفنا بنماذج مشرّفة لأشخاص من مجتمعنا العربي، أؤلئك الذين لا يمكن نسيان فضل ما يقومون به، من بينهم «طبيب الغلابة»، وهو اللقب الذي لازم الدكتور محمد مشالي منذ أن افتتح عيادته البسيطة في أحد أحياء مدينة طنطا، وبقي فيها إلى أن غادر دنيانا نهاية العام الفائت. في الحلقة التي تناولت قصة ذلك الطبيب عرفت أن «المشالي» ظل يقدم خدماته للمرضى، وأغلبيتهم من الفقراء، مقابل أجر زهيد جداً لم يتجاوز حتى آخر يوم في عمله «عشرة جنيهات» مصرية لقاء معاينة المريض.
حين قصد غيث عيادة «طبيب الغلابة» الصغيرة، والتقى صاحبها الطبيب الكهل، أبلغه أن أهل الخير يودون تقديم هدية له مقابل ما قدمه ويقدمه من خدمات لمجتمعه، لكن الطبيب رفض قطعياً أي مساعدة ومهما تكن، فهو - وكما أفصح - لم يرتجِ من وراء عمله إلا مساعدة الناس، وأن ما يقوم به هو واجبه تجاه الناس.
مثلما فعل كثيرون - ممن أعرفهم ولا أعرفهم – كنت أنتظر مشاهدة غيث وهو يذهب إلى قرى ومدن مختلفة ليشيع الفرح في قلوب من يصل إليهم، ويرسم البسمات على محيّاهم بعد أن يؤكد مراراً عبارته الشهيرة أن (الدنيا لسّه بخير). وهو محق في ذلك لأن الدنيا لا تزال بخير طالما الخير باقٍ، وطالما أن هناك من يفكّر بغيره، وطالما هناك من يؤْثر فعل كل ما هو طيب، في حين (ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط) لأنه يغل يده وقلبه عن كل ما هو نافع وصالح من فكر وقول وفعل.
شاهدت حلقات كثيرة من رحلة ابننا غيث الذي بقي مجهولاً بالنسبة للمتابعين، ومن بينهم أنا، وحقيقة لا يهم من يكون، المهم في ما عرضته حلقات برنامجه «قلبي اطمأن»، سواء القصص الإنسانية الموجعة من جانب، ومن جانب آخر معدن ذلك الشاب وخُلقه النبيل، إذ أعتبره مثالاً مهماً في الإيثار واللطف، وفي قبول فكرة أن يكون الطرف الموصل بين الخيّرين والمحتاجين.
ونحن في أواخر أيام شهر الرحمة والمغفرة حري بكل واحد منّا أن يعمم أفكاراً عظيمة كالتراحم والتكاتف، ومثلما نعطف على غيرنا من البشر، نعطف على الطير والحيوان والشجر، ونقدم المصلحة المجتمعية على مصالحنا الضيقة، ونبسط أيادينا للخير لأنه أبقى وأنفع وأزكى الأعمال التي يمكن أن نقدمها في دنيانا، من دون أن ننسى غرس مفهوم العطاء عند أبنائنا فكراً وفعلاً، وندلّهم على الطريق التي من خلالها يجسدون مفهوم الرحمة، سواء مع البشر أو مع أي كائن حي، لأن (كل شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة) كما قال السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولأن (الراحمون يرحمهم الرحمن) كما قال رسولنا محمد عليه أفضل الصلوات.