لا يكاد يخلو بلد دخله الإسلام من معالم عمرانية تخطف الأنظار، فتنطق بما لا يستطيعه لسان، وتبهج الروح بما لا يقدر عليه إنسان. فثمة جوامع ومساجد ليست أقل من جواهر نادرة، لها سطوة من جهة الحضور في نفوس المسلمين. بعض بيوت الله تلك أدت عبر التاريخ أدواراً أكبر وأكثر من كونها أمكنة لإقامة المسلمين فيها صلواتهم الخمس، فهي ترمز لفترةٍ شهدت أحداثاً تاريخية عظيمة، أو لمنارات علمية مهمة، أو أنها شُيِّدت لتخليد اسم مدينة أو شخصية، وفي كل الأحوال فإن مسألة اختيار اسمٍ لجامع أو لمسجد مرهونة بسبب محدد.
تجوالي في العالم منحني فرصة التعرّف على مساجد وجوامع كثيرة، قديمة منها وحديثة، باعتبارها تمثل جانباً رمزياً وروحياً مهماً لي من جهة، ولكونها من جهة أخرى تعطيني فكرة عن الهندسة التي استُخدمت لعمارتها والفنون التي اعتُمدت لتزيينها، فتكشف عن كنز جمالها الكثير والمرتبط بمهارة المعماريين الذين صمموا كل شيء واهتموا بأدق التفاصيل، وبحرفية البنّائين الذين رفعوا الأعمدة والقناطر والقباب والمآذن بحرفية، وبالسحر الذي تركه الفنانون على الحجارة والجدران والخشب، ليكون ذلك السحر شاهداً على الجمال الذي فاض من أرواحهم وهم ينحتون ويخطّون ويزخرفون. ولأنه لم يتسنّ لي حتى اليوم زيارة جميع تلك المساجد والجوامع، فإنني آمل أن أحظى بالوقت والظرف المناسبين لذلك.
لكل مسجد أو جامع شخصيته من جهة العمران، فقد يكون جزءاً من نسيج المدينة وينسجم مع روحها، وربما يكون حداثياً فيبرز كالدرة في التاج. ومثلما لدينا أمثلة عن مساجد وجوامع قديمة ارتبطت بحوادث مهمة، كذلك لدينا مساجد وجوامع حديثة اكتسبت أهميتها من طريقة عمرانها والهدف من وجودها.
من المسجد الحرام في مكة، مروراً بالمسجد النبوي في المدينة المنوّرة، ثم وصولاً إلى المسجد الأقصى في القدس، رحلة تُقاس بالكيلومترات بالنسبة لكثيرين، لكنها بالنسبة للمؤمنين تقاس بأثرها على أرواحهم، فهم يمنّون أنفسهم دوماً بزيارتها، ويبتهلون إلى الله ليمنحهم القدرة على الصلاة فيها تباعاً نظراً لشأنها العظيم في بداية رحلة الإسلام. فالمسجد الحرام هو الأول في الإسلام في قلبه تقع الكعبة المشرّفة التي يُيَمِّم المسلمون وجوههم شطرها، والمسجد النبوي هو الثاني والذي اكتسب أهميته لكونه كان مقراً لنبينا وخلفائه الراشدين، يأتي بعدهما المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى والمحطة الأساسية في الإسراء والمعراج.
إن عبرنا إلى دمشق القديمة لوجدناها تحتضن الجامع الأموي الذي حشدت لبنائه إمكانات مالية ضخمة وخبرات معمارية وفنية فريدة، فهندسه المعماري الدمشقي أبولودوروس، فيما اجتمع لإنشائه حرفيون وعمال من مشرق الأرض ومغربها، أقباطاً ومغاربةً وفرساً وهنودا ويونانيين.
وفي تونس الخضراء بُني جامع الزيتونة ليكون شاهداً على نمو الحضارة الإسلامية ووصولها إلى مكانة رفيعة علمياً، فكان الجامع جامعةً فيها تُدرس علوم اللغة والدين والفلسفة والطب والفلك والرياضيات. وسبقه في هذا الدور التعليمي جامع القرويين بمدينة فاس، والذي أسسته فاطمة الفهرية، وجعلته نواة أول جامعة في الإسلام. ولقاهرة المعز معلمها الإسلامي البارز كذلك، ومن منّا يغفل عن جامع الأزهر، الذي لا يعتبر مكاناً يجمع المسلمين خلال صلواتهم فقط، إنما هو أحد أشهر الجامعات التي تؤدي دوراً تنويرياً على مر العصور منذ إنشائه.
لم يتوقف بناء المساجد والجوامع التي تعتبر تحفاً معمارية وفنية بديعة، ومن بينها المسجد الذهبي والمسجد الجامع في الهند، وكاتدرائية جامع قرطبة ومسجد نور المسيح في إسبانيا، والجامع الأزرق وجامع السليمانية في تركيا، وجامع شيان والمسجد الملون في الصين، ومسجد بادشاهي في باكستان. ومن عصرنا الحديث لا يمكننا إلا أن نتوقف عند مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء بالمغرب، وكذلك جامع الشيخ زايد الكبير بأبوظبي الذي كادت شهرته أن تطبق الآفاق لما يكتنز من فنون معمارية ونحتية وزخرفية نفّذها كبار المهندسين المعماريين والفنانين من عدة دول، يتقدمهم المهندس يوسف عبدلكي، فبدا البناء الأبيض حكاية عشق إلهي، أولها سجدة في حرم الجامع، وآخرها دعاء خالص لله بأن يجتمع البشر على الحق والخير والمحبة.