أكتب لكم اليوم عن سيرة عالم ورجل دولة سعودي، كان سابقاً لزمانه، بوعيه، وإدراكه، وتفهمه لاحتياجات عصره، وهي صفات العالم الحقيقي. إنه الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، (1929-2002) رحمه الله، أول رئيس لمجلس الشورى السعودي، في تشكيله الجديد من العام 1993، وحتى وفاته رحمه الله في يناير 2002. وهو، أحد الخبراء المحنكين، الذين ساهموا في صياغة النظام الأساسي للحكم في السعودية، برئاسة وزير الداخلية السابق، الأمير نايف بن عبدالعزيز، رحمه الله، وصدر النظام في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، في عام 1992، وتشكل من 9 أبواب، و83 مادة، ليكون مرجعاً نظامياً لمنهج الحكم في البلاد، ويمكن اعتباره شبيهاً بالدستور.
لا يمكن فهم شخصية محمد بن جبير إلا إذا تخيلها المرء مدرسة أو كلية جامعية متعددة التخصصات، وشخصية متنوعة المواهب والقدرات، لكننا قبل الدخول في شيء من ذلك، لا بد من تقرير مسلّمات ثلاث اتفق عليها من عرفه، واقتنع بها من تعامل معه، وهي أن الرجل - رحمه الله - كان على درجة عالية من الفضل والخلق والسماحة والبساطة والتواضع ولين الجانب، وأنه كان أبعد ما يكون عن التعالي في رأيه، أو التكبر على غيره أو مصادرة آراء معارضيه أو تصيد أخطائهم أو الحقد عليهم.

الأمر الثاني: أن الفقيد كان عائلي المعيشة، كوّن أسرة مستورة مترابطة حفها بقربه وحنانه وخصها بوقته ورعايته حتى فارق الدنيا.

أما الحقيقة الثالثة: فهي أن الدولة قد وفقت كل التوفيق في اختياره رجل مرحلة، لتسيير مجلس الشورى، بعد أن أعيد تنظيمه وتطويره وتحديث هيكله، حتى أن الكل يعتقد أن من توفيق الله على هذه البلاد أن أوجد فيها عدداً من الكفاءات عالية التأهيل والمناقب العلمية والشخصية، كفاءات تجتمع فيها مؤهلات الشريعة والإدارة والفهم والاستيعاب والإحاطة والمرونة والاعتدال، استطاعت أن تقود مجلس الشورى وأمثاله من الهيئات الدستورية بحنكة وحكمة واقتدار، وأن تتجاوز مرحلة التأسيس الدقيقة بهدوء». كما يقول د. عبدالرحمن الشبيلي، رحمه الله، في كتابه عن الشيخ الراجل.
أما الأستاذ محمد رضا نصر الله، فيرى أنه: «على كثر ما كتب عن الشيخ محمد بن جبير رئيس مجلس الشورى الراحل وكله ثناء يستحقه، استلفت نظري ما كتبه الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء، في جريدة عكاظ..إذ ركز على عامل تنوع التربية الفكرية في شخصية الشيخ الجليل، حيث تتلمذ على شيوخ الحرم المكي وتخرج، حين كانت مكة المكرمة تعج بحلقات الدرس الفقهي، ممثلة معظم ألوان الطيف المذهبي، ورحال العلماء والمتعلمين تُشَدّ إليها، من كل صوب في العالم الإسلامي... وهكذا التحق الشيخ المولود في المجمعة وسط نجد، بتلك الحلقات، متنقلاً بينها، مما أكسبه عمقاً في التحصيل، وفسحة في الرؤية، وسعة في الصدر.

هذه الصفات تجسدت في أدائه، منذ سلك في منظومة القضاء السعودي، فاتحاً صفحة مضيئة بالمواقف المشهودة له بالإنصاف والعدل، والجرأة والمبادرة، متسماً بالحكمة وبعد النظر... هكذا كان الشيخ محمد بن جبير منذ ابتدأ قاضياً، ورئيساً لمحكمة مكة المكرمة، فرئيساً لديوان المظالم، فوزيراً للعدل، وانتهاءً بقيادته لسفينة الشورى، ضارباً المثل اللافت في إجماع الأعضاء عليه.. بل قل عند من عرفه صديقاً أو متقاضياً». (جريدة الرياض، مقال نصر الله: ابن جبير ابن مكة).
ويصف د. عبدالعزيز الثنيان، في كتابه (سنوات في الشورى)، ابن جبير بأنه «رجلُ ذو وقار وعلم، هدوؤه أعطى المجلس في بدايته دفعة كبيرة للأمام، حيث إنه ذو شخصية رائدة وقوية، ويسعى بشكل دؤوب لتطبيق الأنظمة والتعليمات، كما أن له القدرة الفائقة على تحمل المسؤوليات. فقد جمع العلم الشرعي مع القدرة على استيعاب الأفكار الوافدة، دون إخلال بمبادئ الشريعة الإسلامية. يضاف لذلك كله تواضعه وتدينه، ودماثة خلقه».

ويربط فيصل المسعري في مقاله بـ(الوطن) في 28 ديسمبر2020 بين ما كتبه الثنيان وما كتبه د. فالح الفالح، في (كتابه حياة في الطب) عن ابن جبير خلال تجربته الشورية: «إنه شخصية استثنائية ذات وزن عال بين كثير من أبناء الجيل السعودي المتعلم والمتسلم مواقع عديدة من التنمية الشاملة، ابتداءً من عهد الملك فيصل مروراً بالملك خالد والملك فهد. كما أن له رصيداً كبيراً من الاحترام والمصداقية صنعتها سيرته كقاضٍ ثم رئيساً لديوان المظالم ثم وزيراً للعدل».

ويضيف الفالح: «ابن جبير شخصية فذة في تعامله ونظرته للأمور، وذلك يرجع لعمق تجربته، ولقيادته الحازمة المؤهلة شرعياً ومنهجياً».

ويخلص المسعري إلى اتفاق عضوي مجلس الشورى السابقين على «أن الجبير يعتبر قائداً واعياً وله عمق معرفي وشرعي وسياسي، مغلف بطيبة وتواضع وتسامح ما جعله شخصية قابلة لاحتواء المختلف بكل هدوء ومهنية».
قلت: ومن معالم تميز شخصيته الفقهية أنه اختلف مع رأي هيئة كبار العلماء في السعودية عند بحث تقنين الأحكام الفقهية الراجحة وإلزام القضاة فيها، مؤيداً التقنين، رحمه الله، لما فيه من مصلحة راجحة للعباد والبلاد.
رحم الله الشيخ ابن جبير، فقد كان عالماً سبق عصره بوعيه وحكمته وإخلاصه لدينه وولاة أمره ووطنه.

* سفير المملكة في الإمارات.