متغيرات القرن الحادي والعشرين تتطلب التحرك باتجاه الإصلاحات السياسية في تكوين الدول العربية التي تعرضت على مدار القرن العشرين لمراحل مختلفة، سواء من الاستعمار الأجنبي أو ما بعد الاستقلال الوطني والصراع الأيديولوجي الناشئ مع صعود التيارات الإسلاموية، وما أحدثته من صدمات وصدامات مع القوى الوطنية الحاملة للأيديولوجية القومية العربية. من المؤكد أن مسارات طويلة ومعقدة مرت بها الكيانات العربية، أفضت إلى واقع العالم العربي في القرن الحادي والعشرين، واستمرار الصراعات في الكينونات الوطنية حول ماهية الدولة الوطنية العربية والأسئلة المعقدة ذات الإجابات الواضحة التي مازالت تعيش في مناقشات وجدالات لم تعرف الوصول لدساتير الدول، لتتمكن الشعوب من معرفة حقوقها وواجباتها.
بمقارنة مطالع القرن العشرين بالقرن الحادي والعشرين، ثمة اختلاف، فلقد زاد عدد المتعلمين في الشرق الأوسط، وزاد كثيراً عدد العاطلين، غير أن الأسوأ تزايد أعداد المعتنقين للتيارات الإسلاموية، بعد أن كان في القرن السابق ثمة صعود للتيارات القومية والعروبية، والتي شهدت تراجعاً مع عدم نضوج الدولة الوطنية في عدد من بلدان المشرق، وهنا تحديداً تبقى ضرورة القراءة بموضوعية وواقعية في فشل التجارب السياسية، والتي وقعت ضحية للخطاب الإسلاموي، الذي بدوره ظل على مدار عقود القرن العشرين مضاداً لنشوء الدولة الوطنية.
ما شهدته منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من انتفاضات مؤدلجة في العام 2011 كان التصادم الحتمي بين التيارات المتصارعة، والتي أكدت بشكل واضح أن البقاء للدولة الوطنية بكينونتها ونواتها الصلبة، النتائج في مصر، وهي البلد الأكثر تأثيراً وتأثراً انتجت سقوطاً مدوياً للتيار الإسلاموي وصعوداً للدولة الوطنية، مما عزز ويعزز من فكرة تغذية المجتمعات العربية بالعلمنة كوسيلة لحماية الدولة الوطنية وتحصينها، فمن المهم أن تحتوي الدساتير الوطنية على ما يؤكد أن الدولة هي المخولة بحماية الأديان واحترام ممارستها لكل الطوائف.
التجربة وإن كانت قاسية وصعبة، غير أنها اختبرت البنى التحتية في كل الأوطان التي مرت بها أو حتى التي اقتربت منها، فالثابت هو أن العبر والدروس واحدة، وعلى الجميع أن يعمل على إصلاح ما تأثر بتمرير العلمنة في الدساتير ومواجهة الخطاب المعادي لها بمواجهة عقلانية، بتدارك أن القرن الحادي والعشرين يحمل طبيعة معرفية أوسع نطاقاً، وهي السلاح الأقوى لمواجهة التيارات المؤدلجة، هذه المواجهة العقلية ستقضي تماماً على الأفكار المتشددة، سواء كانت عقائدية أو ثقافية متوارثة، وهو ما سيعطي دعامة للدولة الوطنية.
الشرق الأوسط يمتلك فرصة حقيقية للتغيير، لعوامل لم تتوفر للمنطقة في أزمنة طويلة سابقة، الفرص الاقتصادية وتوسيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل تعتبر عوامل مواتية لتعزيز الدولة الوطنية الكفيلة بتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، العلمانية ليست شراً مطلقاً كما تم تصويره من قبل التيارات الإسلاموية واليسارية وتمريرها في المجتمعات بات ضرورة للبقاء والصمود، فالتجربة وحدها أكدت ذلك، فالقوة في الدولة وليس في غيرها.
الزمن يقضي بضرورة تطعيم الدساتير بالأفكار العقلانية الضامنة لاستقرار البلدان وحفظ حقوق الشعوب في أوطانها، على مدى القرن العشرين أضاعت المنطقة العربية وقتها في مناقشات فكرية عديمة الفائدة مع أصحاب تيارات ترى في الأوطان أوثاناً. الضرورة تقتضي البدء في تحريك القوى الوطنية بمختلف اتجاهاتها لإصلاحات سياسية تستهدف تحقيق أعلى درجات الأمن الفكري، الذي تضرر كثيراً، ومن خلاله تسرب المتطرفون والمتعصبون، ولن ينتهي هذا التسرب بغير إصلاحات بنيوية ترتكز على علمنة الدولة، فهي الضمانة للحفاظ على المكتسبات والحصانة من كيد كائدين سيظلون يستهدفون المنطقة العربية.
تجريف التشدد وتطهير العقول لاقتحام القرن الحادي والعشرين يتطلب ضرورة علمنة الحياة. فالأصل أن الدولة الوطنية وحدها مسؤولة عن تطبيق الدين وتعاليمه وتشريعاته، وهذا لا يتعارض مع قدسية الدين الإسلامي، إنما يعزز تحويل التشريعات لقوانين تكفل حقوق الناس وتضمن إنفاذها.
* كاتب يمني