تتسارع حدة الصراعات الدولية، بما في ذلك محاولات السيطرة على طرق التجارة والبنى التحتية المرتبطة بها من طرق وسكك حديدية ومطارات وموانئ. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الصراع قديم ومتجذر في العلاقات الدولية، إلا أنه يأخذ في الوقت الحاضر طابعاً شمولياً من خلال بناء تحالفات اقتصادية وربط للمصالح، على عكس الصراعات السابقة التي اعتمدت على القوة العسكرية والاحتلال المباشر.
ويمكن القول إن الصين بعد أن اشتدت شوكتها بفضل التقدم الاقتصادي الذي حققته في العقود الماضية اتجهت بهدوء للاستثمار بكثافة في مشاريع البنى التحتية في العديد من البلدان التي تشكل تقاطعات لطرق التجارة، وذلك قبل أن تعلن عن مشروعها الاستراتيجي الكبير «الحزام والطريق» والذي وجد له أساساً قوياً بالاستثمار في أفريقيا وآسيا، والتي توجت مؤخراً باتفاقية طويلة المدى لمدة 25 عاماً وبحجم استثمارات 400 مليار دولار مع إيران والتي يعتقد بأنها عبارة عن رهن للبنى التحتية الإيرانية، بما فيها منشآت النفط والغاز للصين، مما أثار ردود فعل معارضة داخل النظام الإيراني.
ودفعت هذه التوجهات الصينية القوى الكبرى الأخرى إلى استشعار الخطر، وبالأخص بعد أن تعرقلت محاولات شركاتها الدخول إلى بعض الأسواق الأفريقية والتي لم تتمكن من الوصول إليها دون موافقة الشركات الصينية المهيمنة هناك، وهو ما قد يحدث مع بلدان أخرى في المستقبل من وجهة نظر القوى الكبرى التي لا تريد أن ترى نفسَها رهينةً للشركات الصينية.
لذلك تستجد الآن تحركات جديدة لتقاسم الهيمنة على طرق التجارة الدولية، خصوصاً وأن تعطل قناة السويس لمدة أسبوع مؤخراً بيّن بوضوح مدى الضرر الذي يمكن أن تتعرض له المصالح جراء قطع أحد طرق التجارة الرئيسية، إذ رغم قصر الفترة الزمنية لغلق القناة، فإنه حدث بعض النقص في الإمدادات وتكدست السفن بانتظار تفريغ حمولتها، مما كبّد الشركات التجارية، وبالأخص شركات التأمين، خسائر باهظة.
ضمن هذا الصراع أوضحت صحيفة «الفايننشال تايمز» مؤخراً أن الاتحاد الأوروبي والهند لديهما مشروع لبناء مرافق مشتركة للبنية التحتية في العديد من مناطق العالم، وهو ما يعد المشروع المقابل للمشروع الصيني «الحزام والطريق» والذي قطع شوطاً كبيراً على طريق الإنجاز، علماً بأن المشروع الأوروبي الهندي يعتبر عملياً نسخةً من المشروع الصيني، إذ يركز على مشاريع البنى التحتية والنقل والطاقة والرقمنة، إلا أنه ربما يستغل ضعف الضمانات التشريعية في المشروع الصيني ليعمد إلى تقديم ضمانات أكبر ضمن الصراع المتوقع أن يستقطب قوى أخرى، كالولايات المتحدة وروسيا واليابان وكندا وأستراليا، إما من خلال الإعلان عن قيام مشاريع وتحالفات جديدة أو الانضمام إلى أحد هذين المشروعين العملاقين، مما قد يخلط الكثير من أوراق التحالفات. فالهند على سبيل المثال غريم قديم للصين، إلا أنها حليف لروسيا والولايات المتحدة في آن معاً. بوادر هذا الصراع بدأت في البروز بقوة، ففي نهاية الأسبوع الماضي هددت الصين أستراليا بالرد بعد أن ألغت الأخيرة اتفاقاً حول مشروع «الحزام والطريق»، وهو الأمر الذي اعتبرته بكين مساساً خطيراً بالعلاقات الثنائية.
العامل الحاسم في هذا الصراع من وجهة نظرنا سيكون التمويل، فهذه المشاريع بحاجة لاستثمارات هائلة، فالصين خصصت 2 تريليون دولار لمشروعها، وهو أمر معقد للمشاريع الأخرى المشابهة، إذ ربما يكون للبلدان العربية، والخليجية تحديداً، دور محوري في هذا الجانب بحكم امتلاكها قدرات تمويلية كبيرة، إضافة إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي الواقع على تقاطعات طرق التجارة الدولية والذي بدونه لا يمكن تصور خطوط الإمداد بين شرق الكرة الأرضية وغربها.
إذن فالتمويل والموقع يتيحان للبلدان العربية التأثير وبقوة في تلك المشاريع وتحقيق مكاسب كبيرة، إلا أن ذلك بحاجة لدراسات معمقة تُحَدَّد من خلالها الأولويات، فطبيعة الصراع عنيفة وخطيرة والسير بين أعشاش الدبابير يحتاج إلى مرونة وحذر، علماً بأنه لا يمكن تفاديه، مما يتطلب تسخيره لحماية المصالح بالاستفادة من التناقضات الدولية. 


*خبير ومستشار اقتصادي