كيف يمكن تفسير ما يحدث في النفس من وشائج قربى في هذا الشهر بين الإنسان والقراءة، حيث يصبح للكتاب رائحة غير رائحة الخشب المصقول، بل تبدو الصفحات التي تتقلب بين يديك بعبق التاريخ تتجلى في صور علماء وأدباء، وفقهاء وفطاحل، يقفزون فجأة مثل موجة عارمة تحرك فيك نوازع، وتشغل مشاعر، وتثير أشجاناً ولا تدري لماذا وأنت تقرأ قصة أو قصيدة ينتابك إحساس غريب، يتسرب إليك كأنه الهواء المثقل بدخان كثيف، ذي رائحة تقلب في نفسك المواجع، وفي أحيان أخرى تتغير السحنات، وتبدأ أيدٍ خفية تحثو على جرح غائر حفن التراب المالح، فتتألم، وتحاول أن تلقي بالكتاب جانباً، ثم تنفر مستدعياً كل جيوش الصور التي تسمرت أمامك مثل جنود مذنبين، ولكنك لاتعبأ لما يحدث بل تحاول أن تخفي ناظريك عن المشهد بوضع ذراعك على عينيك، وبعد فترة وجيزة، تفكر في الانتقال من المكان وترك الكتاب على المنضدة كأنه عملة فاسدة، ولكن الهروب لا يقدم ولا يؤخر، بل تظل الصور تلاحقك وعيونها منصوبة نحوك، وأحياناً تكشر، وتكفهر لمجرد إحساسها أنك تحاول الهروب من الواقع.
يعتريك سؤال مباشر، لماذا في رمضان تتوافد صور الأصدقاء والأحبة الذين غابوا، والذين هجروا، والذين اختاروا الغيبة الأبدية؟ لا تستطيع الإجابة ولكنك بإحساس الكائن المطوق دوماً بالذاكرة، كما هي الصحراء التي تسربل غافة نائية على قمة هضبة، تشعر بأن هناك قوة ما تختبئ خلف كل هذا الضجيج الذي يملأ الذاكرة، إنها تشبث بطفولة، ربما تكون مشعة، أو تكون منطفئة، المهم في الأمر أنك مهما بلغت من العمر عتياً يبقى الطفل في داخلك، يجذبك إلى عالمه الطفولي، ويأخذك إلى أحداث قد تكون تجاهلتها إلا أن هذا الطفل المشاغب، يبقى متمسكاً بقرارك الذي لا تملكه، وإنما هو ملك تاريخ والتاريخ طفولي بحد ذاته.
قد تتذكر ليلة رمضانية متشائمة حيث طغت عليك نومة ولم تلحق بوقت السحور، مما جعلك تقرر عدم الصوم في ذلك اليوم، ولكن كيف لك أن تقتنص لقمة «الحرام» في نهار يصوم فيه الملأ، لا بد أنك ستواجه صعوبات جمة، الأمر الذي يتطلب منك الحرص والحذر، ولكن العيون المتلصصة لا يغيب عنها الإمساك بكل من تسول له نفسه الذهاب إلى المطبخ بحثاً عن لقمة سائغة.
وهنا يحدث المحظور، وتمسك بك يد حانقة، وتلاقي العقاب الذي طالما توجست منه.