بإعلان الرئيس الأميركي جو بايدن الانسحاب من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر القادم، تنتهي عشرون عاماً من الحرب الأميركية في أفغانستان بدأت بالحادثة الأشهر في التاريخ الحديث ربما منذ الحرب العالمية الثانية، وأعني الهجوم الإرهابي على برجي مركز التجارة العالمية بالطائرات المفخخة في 11 سبتمبر 2001، والتي أدخلت العالم في متوالية معقدة من الصراعات والتحولات، بدأت بالحربين الأميركيتين في أفغانستان والعراق، ثم صعدت موجة من العنف «الإسلامي» في أنحاء العالم، ودخلت منطقة الشرق الأوسط في مرحلة من الصراعات الداخلية والفوضى. وفي المحصلة لم تتحقق الآمال والتطلعات التي وعدت بها الولايات المتحدة شعوب ودول العالم كنتيجة للحرب على الإرهاب. وبالنسبة لأفغانستان التي دخلت في حرب داخلية طاحنة منذ عام 1973، وتدخلت فيها أطراف دولية وإقليمية، فقد ظلت تحلّ المشكلة بمشكلة أخرى أشد تعقيداً، إذ أدى الصراع الداخلي في الأسرة الأفغانية الحاكمة إلى انقلاب عسكري قاده محمد داود ابن عم الملك ظاهر شاه، والذي شغل منصب رئيس الوزراء حوالي عشر سنوات، وصار مركزاً سياسياً مؤثراً ينافس الملك، ودخلت البلاد في مرحلة من التقارب مع الاتحاد السوفييتي الذي كان مشتبكاً في حرب عالمية باردة مع الولايات المتحدة وحلفائها، ومن أهمهم باكستان التي كانت تنظر بقلق إلى التحولات في أفغانستان، فدعمت ثورة داخلية، سياسية وإعلامية ومسلحة، ضد الرئيس محمد داود، ثم أدار الشيوعيون انقلاباً عسكرياً دموياً ضد محمد داود عام 1978، واشتعلت حرب أهلية شاملة بين المعارضين للشيوعية من المواطنين والجماعات السياسية وبتأييد قوي من باكستان والولايات المتحدة ودول كثيرة معادية للسوفييت والشيوعية!
لكن الرفاق دخلوا في موجة صراع داخلي دموي، حيث أطاح بنور تراقي رفيقه اللدود حفيظ الله أمين، وفشل هذا في السيطرة على أفغانستان، ليطيح به انقلاب داخلي جديد من قبل رفيقه بابراك كارمل، والذي جاء إلى السلطة مسحوباً بتدخل سوفييتي واسع نهاية عام 1979، وتدخل العالم في أفغانستان في حرب عالمية وإقليمية جديدة، وهجر الملايين من الأفغان إلى باكستان وإيران وفي أنحاء العالم، وقتل مئات الآلاف، وتحولت البلاد إلى ساحة من القتل والدمار.
ثم حدث انقلاب رابع في صفوف الشيوعيين قاده مدير المخابرات نجيب الله في عام 1986، وأخذت الحرب أبعاداً عسكرية وسياسية ودولية جديدة، إذ تطورت القدرات القتالية للجماعات المناوئة للنظام الشيوعي، وحصلت على سلاح مؤثر وتدريب عسكري متقدم في باكستان، وفي الوقت نفسه بدأ الإعياء يظهر بوضوح على الاتحاد السوفييتي، ودخل بمجيء غورباتشوف إلى السلطة في مرحلة من المراجعة الاستراتيجية «بيروسترويكا»، وكان كتاب غورباتشوف بهذا العنوان هو الأكثر تداولاً ونقاشاً في نهاية الثمانينيات، ثم دخل الرئيسان ريغان وغورباتشوف، وبمشاركة باكستانية، في رعاية مفاوضات وانسحاب سوفييتي من أفغانستان لعله يشبه كثيراً الانسحاب الأميركي المتوقع في الشهور القليلة القادمة. وقد انسحب السوفييت بالفعل من أفعانستان عام 1989، ثم سرعان ما تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه وانهارت المنظومة الشيوعية العالمية وانتهت الحرب الباردة.
لكن المنتصرين أو القادة الجدد في أفغانستان دخلوا في حرب داخلية جديدة فيما بينهم كانت أشد فتكاً من الحرب بينهم وبين الشيوعيين، وأدخلوا البلاد في مرحلة جديدة من الإنهاك والكراهية على مدى الأعوام 1992- 1996. وفي هذه الأثناء صعدت حركة «طالبان»، وهي تسمية تعني طلاب المدارس الدينية، بقيادة الملالي (جمع ملا ومولوي) من أساتذة هذه المدارس، وتحولت شبكة المدارس الدينية بسرعة مدهشة إلى حركة سياسية وعسكرية كاسحة، أبعدت جميع الأحزاب والقادة السياسيين الذين تصدَّروا المشهد الأفغاني بين عامي 1974 و1996. ومرة أخرى دخلت أفغانستان مرحلة جديدة من العنف والصراع تُوِّجت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. 
واليوم تنسحب الولايات المتحدة من أفغانستان كما انسحب الاتحاد السوفييتي عام 1989، لكن الأفغان لم ينسحبوا من الحروب الداخلية منذ 48 عاماً، وليس من أفق لإنهاء الصراع سوى الأمل والرجاء!