في أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهر مصطلح «علم الاجتماع السياسيس لتقليل الهوة الكبيرة التي حدثت بين علم الاجتماع وعلم السياسة، بعد أن فشلت معظم النظريات العاطفية والقومية وتساقطت أمام ما حدث في السنوات الست الأخيرة (سنوات الحرب 1939-1945)، وتبين مدى الفجوة التي تأثرت بها البنية الاجتماعية بالأحداث السياسية المتسارعة، والتي أدّت إلى خراب في الواقع الجيوسياسي الواحد للمجتمعات الأوروبية، فمن خلال فهم وإدراك مستقبل أوروبا، خلال خمسة وأربعين عاماً، تم تذويب الاختلافات والخلافات الأيديولوجية والثقافية والسياسية الأوروبية في معاهدة ماستريخت عام 1991، والتي نتج عنها الاتحاد الأوروبي.

الشرق الأوسط، ومنذ عام 1947، أي منذ انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وصدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الذي قضى بدولة عربية ودولة يهودية وأن تكون القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت الوصاية الدولية، والذي تم رفضه من الجانب العربي وخاصة الفلسطيني، تراكمت حوله المئات من النظريات والأزمات والحروب والمشاحنات، قد أدى أيضاً إلى ظهور دول وزعامات تاجرت واستثمرت في الخلاف العربي- الإسرائيلي، فبقي الشرق الأوسط، يرزح تحت ظلال الانقسام والفتنة والخوف وتأصيل العداء. وباستثناء معاهدات مصر ثم الأردن والسلطة الفلسطينية مع الجانب الإسرائيلي في بدايات التسعينيات من القرن العشرين، والتي ساهمت بتقريب نسبي لوجهات النظر في الشرق الأوسط، بقي الإقليم يعاني مخاض استنزاف للواقع السياسي، الذي نشأ في ظلام العواطف القومية والفكر المتطرف وتجاهل كلياً مستقبل شعوب المنطقة، وكأنه ما زال متوقفاً عند العام 1948.
ما حجم الفرص السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية التي ضاعت في منطقة الشرق الأوسط خلال سبعين عاماً؟ هل هناك من قام بجردة حساب بيّن فيها الضياع الهائل غير المبرر في قطاعات التعليم والصحة والتكنولوجيا والفرص الاقتصادية العملاقة التي كانت ستنعكس حتماً على شعوب المنطقة؟ وهل هناك من رصد الدول والجماعات الإرهابية وقياداتها التي استغلت هذا الواقع السياسي المؤلم لتكبر وتتوسع على حسابه؟ وفي النهاية هل تساءل أحد: من سيدفع تلك الفاتورة الباهظة التي أرهقت الشعوب والأجيال وستزيد من إرهاقهم لو استمر الحال سبعين عاماً أخرى؟
الأسبوع الماضي، قالت الإمارات واليونان وإسرائيل وقبرص، في لقاء بافوس، أنها «ستسعى إلى تعميق التعاون في مجالات كثيرة، وأن العلاقات الناشئة قد تغير وجه منطقة أصبح اسمها مقترنا بالصراع»، وقال معالي الدكتور أنور بن محمد قرقاش المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة: «اتفاقات أبراهام كانت مدفوعة بشكل أساسي بضرورة رؤية استراتيجية بديلة للمنطقة تقوم على الاستقرار والازدهار والفرص»، أما وزير الخارجية القبرصي والمضيف نيكوس كريستودوليديس فقد قال: «تخلق شبكة التعاون الإقليمي المتطورة سردية جديدة تكسر الحاجز غير المرئي السائد في جوارنا كمنطقة من الاضطرابات والصراع والأزمات».
وزير الخارجية الإسرائيلي بدوره، جابي أشكينازي، الذي وجه من «بافوس» دعوة صريحة للفلسطينيين للعودة إلى مفاوضات السلام، قال: «إن إسرائيل والإمارات صنعتا التاريخ من خلال التوقيع على اتفاقية السلام فيما بينهما»، وأضاف: «هذا الاجتماع هو إحدى نتائج التغييرات التي حدثت في الشرق الأوسط خلال العام المنصرم، بفضل قرار القادة الشجاع والجريء، ولقد غيرنا وجه الشرق الأوسط من خلال معاهدة السلام مع الإمارات».
ما بدأته الإمارات في سبتمبر 2020، حين وقعت اتفاقية السلام مع إسرائيل هو نتاج دراسات عميقة قرأت الواقع الاجتماعي والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط، ورصدت وحسبت في ميزان ثاقب ما فات وما يمكن أن يفوت من فرص أخرى كثيرة، ليست اقتصادية فحسب، بل هي قيام الإقليم الواحد الذي يستحق كل من يحيا على ترابه فرصة العيش تحت مظلة الأمن والسلام والتسامح، وفتح الآفاق والأبواب على مصراعيها للنمو والتطور، وتحقيق أعلى درجات التميز والتفوق العلمي وتبديل حياة الشعوب التي تأملت طويلاً في حياة تجعل من كل إنسان يعيش في هذا الإقليم يشعر كما يشعر كل من يعيش اليوم في ظل الاتحاد الأوروبي بأن الاختلاف الفكري والديني والمذهبي والعرقي والسياسي، لا يفسد للود قضية.
لا يمكن لعلم الاجتماع السياسي أن يطلب من الناس مسح الماضي بجرة قلم، ولكنه في الواقع يأمل منهم، أن يفكروا لبرهة في السبعين عاماً القادمة كما فكروا طويلاً دون جدوى بالسبعين عاماً الماضية.