شهر رمضان شهر الخير والإيمان وهو أحد المواسم الدينية المهمة لدى مليار ونصف مليار مسلم حول العالم، وفي المواسم الدينية تصفو النفوس وتسمو الأرواح ويتجه الناس لتنقية القلوب وعمل الخير واكتساب الأجر. ولطالما كان هذا الشهر الكريم شهر نشاطٍ لجماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني في العقود الأخيرة لأنهم يجيدون استغلال عواطف المسلمين وحشد طاقة هذه التنظيمات وعناصرها لمحاربة الإسلام والمسلمين والإنسانية.
كم بثّوا من خطبٍ ورفعوا من شعاراتٍ ونفذوا من عمليات تفجير وتدمير وإراقة دماء في هذا الشهر الكريم؟! لا لشيء إلا لأنهم يقنعون أتباعهم بأن الإرهاب عبادةٌ، وقتل الناس قربةٌ، وتخريب الأوطان طاعةٌ! ومع حجم السخافة في مثل هذا الطرح، إلا أنه انطلى على كثيرين لعقودٍ من الزمن ليست بالقصيرة، والملاحظ اليوم هو أن هذه الجرائم قلّت بشكل كبير في هذا الشهر والمتابع يستطيع رصد هذا التراجع بسهولة ويسر.
لم يأتِ هذا التراجع بسبب يقظة ضميرٍ مفاجئةٍ أو مراجعةٍ ذاتية عميقة، بل جاء نتيجة العجز عن اجتراح الجرائم وارتكاب الموبقات، وذلك لسبب مهمٍ، وهو أن الدول المهمة في العالم العربي، وعلى رأسها السعودية والإمارات ومصر، قد صنّفت جماعات الإسلام السياسي كجماعة «الإخوان» جماعاتٍ إرهابيةٍ مدانةٍ بحكم القانون وقوة الأنظمة.
وأتبعت ذلك بأنظمة تفصيلية لتتبع كل ذيول هذه الجماعات في المؤسسات الحكومية وتحديداً في التربية والتعليم وفي العمل الخيري، ما عنى شل قدرة هذه الجماعات على تجنيد النشء واختطاف عقولهم وتخريبها، مع قطع مصادر التمويل التي توفّر الأموال التي تستطيع من خلالها التوسع والتأثير.
سيطرة الدول على التعليم والعمل الخيري قدّمت ضماناتٍ للمجتمعات بأن أبناءها سيكونون ناجحين مستقبلاً في خدمة دولهم وشعوبهم، وبأن الأموال التي يبذلونها في مسالك الخير ستتجه فعلاً إلى الخير ولن يستطيع أحد تحويلها إلى عمليات إرهابية تستهدف أمن الدول والناس وتقتل الأبرياء.
هذا التحول الكبير ظهرت آثاره بوضوح في الدول العربية، وبدأت تأثيراته تصيب بعض الدول في المنطقة التي بدأت في التخلي عن دعم جماعات الإسلام السياسي ورموزها وعناصرها وتفاوض الدول العربية على منع شرور هذه الجماعات وتسليم بعض رموزها وعناصرها، مما أحدث ربكةً كبيرةٍ في صفوف هذه الجماعات، وبدأ الخلل يكبر والخلافات الداخلية تظهر للعلن بين قياداتٍ واعيةٍ بحجم الشرور التي تبثها والحلم بالسلطة الذي يتملّكها وبين شبابٍ مخدوعٍ صدّق تلك القيادات ثم أصبح في العراء ينتظر مستقبلاً مجهولاً وغداً أسود.
على طول التاريخ وعرض الجغرافيا كان خونة الأوطان ينتهون نهاياتٍ بشعةٍ، ولكن جماعات الإسلام السياسي حوّلت تلك الخيانات من خياناتٍ فرديةٍ إلى منهجٍ وعقيدةٍ وأيديولوجيةٍ استتبعت فيه الآلاف وأضاعت أعمارهم وقضت على أحلامهم ومستقبلهم، وها هم يهيمون على وجوههم لا يلوون على شيء ولا يجدون مناصاً من قدرٍ محتومٍ بحصد الخسائر المتتالية.
يثور هنا سؤال مهم هو: هل استسلمت هذه الجماعات؟ هل تنازلت عن أحلام الوصول إلى السلطة بأي ثمنٍ وأي طريقٍ؟ هل تراجعت عن كل الشرور التي بذرتها ونشرتها؟ الجواب الواضح هو: لا، لم تستسلم ولم تتنازل ولم تتراجع، وهي غير مهيأةٍ لذلك، وإلا لفقدت نفسها وتلاشت.
ومن هنا، فهذه الجماعات ورموزها وعناصرها المعروفون والمتخفون ما زالوا يجتهدون ويفكرون، يخططون ويعملون، لإعادة التغلغل في مؤسسات الدول والتأثير في التعليم والعمل الخيري، وهم يملكون خبرةً طويلة في هذا التخفي والعمل السري، ويمكن للعين الفاحصة أن تكتشف هذه التأثيرات وتترصدها.
أخيراً، فمن المهم الانتباه الدائم لمحاولة جماعات الإسلام السياسي العودةَ مجدداً مع استحضار أنهم قادرون على استغلال أي خططٍ إصلاحية أو طموحاتٍ تنموية وتحويلها لخدمة أهدافهم.