ابنتي «بترا» عمرها الآن ثماني سنوات. وهي في الصف الثالث الابتدائي بمدرسة كاثوليكية قريبة من منزلنا في مدينة غنت البلجيكية، والمدرسة تحمل اسم القديس فرنسيس الأسيزي.
في عام 2019، تسلم الملك الأردني جائزة مصباح السلام باسم هذا القديس، ولأني أتابع الخبر على التلفزيون، تطوعت «بترا» لتفاجئني بكم المعلومات «الإنساني» الهائل عن القديس «فرنسيس الأسيزي» وحياته الحافلة بالسفر حتى في العالم العربي والإسلامي، والتي نذرها لمبادئ الأخوة الإنسانية، تلك المبادئ تؤكد عليها ابنتي الصغيرة كمبادئ يتعلمها الأطفال في مدرستهم التي تحمل اسم هذا الرجل الإيطالي العظيم.
قبل تلك الحادثة الجميلة على خلفية خبر الملك وجائزته باسم القديس، لم أكن أدقق كثيراً بمعارف «بترا» المدرسية، مطمئناً إلى جودة التعليم في بلجيكا، ومرتاحاً بثقة إلى متابعة نصفي الأفضل والدتها، وهي متابعة حثيثة خصوصاً أن زوجتي تتقن الهولندية «لغة الجانب البلجيكي الذي نعيش فيه»، وأنا لا أتقن من الهولندية إلا ما يكفي لأطلب فنجان قهوة وكعكة حلوة من المقهى في أزمان ما قبل كورونا.
قبل أسبوع تقريباً، انتبهت إلى أن «بترا» في صفها الثالث تدرس «التاريخ» في المدرسة.
يومها صحبتها من المدرسة إلى البيت، وفي السيارة صارت تسألني عن الحروب والنزاعات والناس «المساكين» الذين ماتوا صغاراً ولم يروا أولادهم وأحزنوا أمهاتهم، وأن العالم أصبح جيداً منذ أن قرر «وضع السلاح»!
عند هذه العبارة كان لا بد من توقف بدعسة «فرامل» مفاجئة على يمين الطريق، والتساؤل عن عبارة «وضع السلاح» التي قالتها ابنتي! تلك عبارة أنا شخصياً عرفتها في عمر العشرين.
قالت لي صغيرتي إن الموضوع كان ضمن دروس التاريخ «كقصص متلفزة ومصورة» عن الحرب العالمية الأولى!
تلك مفاجأة ثانية، أنا عرفت عن الحرب العالمية الأولى في عمر العشرين أيضاً.
في البيت، ومع انتباه أكثر مني وهي تدرس مع أمها، فهمت أن هناك أسئلة لتلك الدروس في كتب المدرسة مثل: من كان معنا في الحرب ومن كان ضدنا؟
أشفقت على بترا «متعددة الهويات» من هذا السؤال.
بترا، التي تتحدث الهنغارية كثيراً مع أمها خارج مواعيد الدروس، وهي لغة من لغاتها الأم، وهي التي تتحدث معي العربية أيضاً، وفي مدرستها هي بلجيكية، ستضطر كثيراً إلى تحديد مكانها من كلمة «معنا» الواردة في السؤال، فهنغاريا كانت ضد بلجيكا في الحرب.
لكن، أوروبا التي تعلمت الكثير من حقبة الحروب والدم في تاريخها، لن تترك ابنتي وكل أجيال ما بعد الحروب معلقين هكذا.
في الدروس، يعلمونهم أن الحرب التي شرذمت أوروبا انتهت إلى سلام، ويفتحون أعين الأطفال إلى حدود مفتوحة بين أعداء الأمس، وصور أماكن سياحية جميلة في ألمانيا وإسبانيا وباقي أوروبا بدلاً من خنادق الموت الدموية.
لا أعرف ماذا أقول لبترا إنْ سألتني عن حروب عالمنا المشغول بحروبه، وكلها تتحدث زوراً باسم «الله» العادل المطلق، وتغيب عنها الأخوة الإنسانية التي تجمع البشر.
الخلاصة: بداية ثوة الوعي في مناهج تعليم الأطفال.
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا