سأظل أقتفي أثر ترحالكم يا فلاسفة العصور. أيها الذاهبون إلى معانقة المدى، السائرون بخفّة طائرٍ تخلّص من أحمال أقداره كلها، وقرر أن ينتمي للذوبان في النور. وستكون البداية بأن أتلمس أثركم الناصع المنقوش منذ بداية الخليقة في عقول البشر. مصغياً مثلكم في أول الأمر إلى صوت الطبيعة وترنيمة الريح وهمس النسيم العذب في الغابات والصحاري الشاسعة. ثم سأصغي قليلاً إلى أقوالكم القديمة التي تفسّر الكون بأنه المادة تتشكّلُ من تجاذبات عناصرها. وإن الإنسان كائن يسبحُ في الذرّات فيطفو قليلاً ثم يعود ليغوص ويختفي في الأعماق. وستكون تلك بداية انتصار العقل على الخرافة، ومفتاح الطريق الطويل لمحاولة تفسير العالم بالمنطق والحجة والبرهان. ذلك لأن الفلسفة هي مفتاح الوصول إلى السكينة ودحض الشك وملامسة اليقين، وهي جوهر الإيمان الصافي بوحدة الكون. ومن يمشي في درب الفلسفة، عليه أن يصغي لعذابات من خاضوا في وعورة دروبها الصعبة، وجلُّهم اقتيدوا إلى النفي أجساداً أجساداً، لكن ظلت أقوالهم تشعُّ في عتمة التاريخ وتنير في كل مرة الدروب الحالكة.
اليوم، لم يعد الفلاسفة يفسرون الظواهر في الطبيعة، فقد أوكلوا هذه المهمة للعلم. وما تقوله الفلسفة، وما تحاول أن تسبر غوره عميقاً هو فهم الجوهر الإنساني للبشر، وكيف تتشكل منظومة القيم والأخلاق الفردية والمجتمعية، وأين يكمن الخوف في هذه القيم، وأين تتوارى أفكار الحرية. ويمتد هذا البحث إلى استقراء السلوك البشري والعمل والكلام والكتابة وحتى الصمت. فالإنسان، بمشاعره وهواجسه وتكويناته هو مادة التشريح الأولى. لذلك تتعمق الفلسفة في كشف هذا الترابط بين مجموعة القيم بغية تفكيكها والقبض على مكامن الوهم التي تقود إلى الجهل. لقد أصبحت الفلسفة فلسفات ومناهج ونُظم تفكير لقراءة الواقع وتشكّلاته وتبدلاته، وما ينطبقُ مثلاً على منهج فلسفة التاريخ، قد لا يقبل التطبيق على فلسفة اللغة. لقد اتسعت الدائرة، بمعنى أن الفلسفة اليوم تعيش عصر تعدد تخصصاتها، ومع ذلك، فإن كل أنهارها تبدأ من مصبٍّ واحد هو العقل، وتنتهي في بحرٍ واحدٍ هو قراءة الوجود من مختلف زواياه وأسئلته.
يبقى الإنسان محور الاهتمام الأول للفلسفة لأنه مركز هذا الكون. ولأننا كبشر نحتاج أن نتعمق أكثر في فهم معنى وجودنا. وتحتاج مجتمعاتنا إلى المنهج والرؤية والتخطيط والاستشراف، وهي أمور تقوم كلها على العقل والتفكير وإطلاق العنان للمخيلة بدلاً من تقييدها.