يوماً بعد آخر تتزايد أهمية مجموعة «أوبك+» ودورها في استقرار أسعار النفط ومساهمتها في الحفاظ على أسعار عادلة تستجيب لمصالح البلدان المنتجة للنفط، حيث أضحت الأسواق تترقب اجتماعاتها الدورية لتحدد اتجاهات الأسعار بين اجتماعي المنظمة. والملاحظ أن تفاوت الآراء والتوجهات والاختلافات قد تقلصت بصورة كبيرة بين الدول الأعضاء في «أوبك+»، بعد ما كانت اجتماعات الأوبك تستمر عدة أيام دون التوصل إلى اتفاق نهائي في بعض الأحيان، في الوقت الذي لا تستغرق فيه الاجتماعات الحالية سوى سويعات محدودة، وذلك بفضل الاتفاقات المسبقة بين كبار المنتجين والمصدّرين، والتي تنعكس نتائجها الإيجابية على كافة الدول الأعضاء في المجموعة. يعتبر ذلك تطوراً لافتاً يعكس النضج الذي وصلت إليه «الأوبك» بعد ستين عاماً من تأسيسها، إذ يلاحَظ مدى التأني والحذر الذي تتصف به قرارات «أوبك+»، وكأنها وضعت في ميزان حساس قبل صدورها لحساب دقة تقبل الأسواق والشركات والمستثمرين لهذه القرارات الحساسة.

ضمن هذه الحكمة، جاءت قرارات الاجتماع الأخير لـ«أوبك+»، نهاية الأسبوع الماضي، والتي أخذت بعين الاعتبار تطورات شهر مارس المنصرم والتوقعات الخاصة بالأشهر القليلة القادمة. فبعد انفتاحات مشجعة لاقتصادات البلدان المستهلكة للنفط في شهري يناير وفبراير الماضيين، عقب تراجع نسبي لعدد الإصابات بفيروس «كوفيد-19»، انتشرت للأسف سلالات جديدة أدت إلى موجة من إعادة الإغلاق للأسواق والأنشطة الاقتصادية، وبالأخص في بلدان أوروبا الغربية، والتي تتأخر في عمليات التطعيم لأسباب عديدة.

وفي نفس الوقت يُتوقع أن يشهد شهر مايو القادم بعض التحسن في محاصرة الفيروس من جديد، مما يعني أن هناك إمكانيات لتنشيط الدورات الاقتصادية، كما أنه ابتداءً من شهري يوليو وأغسطس القادمين ستبدأ عملية ملء خزانات الاحتياطات النفطية في العديد من مناطق العالم استعداداً لفصل الشتاء، وذلك بعد استهلاك جزء كبير من الاحتياطيات السابقة أثناء فصل الشتاء الماضي، مما سيؤدي إلى ارتفاع الطلب على النفط ومشتقاته في تلك الفترة. ومن هنا جاءت قرارات مجموعة «أوبك+» الأسبوع الماضي حذرةً ومتزنةً بصورة كبيرة لتجد لها انعكاسات إيجابية، إذ قررت هذه الدول زيادة الإنتاج بصورة متحفظة جداً بمقدار 350 ألف برميل يومياً في شهري مايو ويونيو القادمين، ومن ثم بحجم 400 ألف برميل في شهر يوليو القادم، وهي قرارات تجاوبت معها الأسواق بإيجابية في البداية، ليرتفع سعر برميل برنت من 62.5 دولار إلى 65 دولاراً، إلا أنه عاد وانخفض إلى 63 دولاراً للبرميل بداية الأسبوع الجاري، بعد العودة إلى الإغلاقات في بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا.

إذن، تبدو الصورة واضحة نسبياً للأشهر الأربعة القادمة، وهو تطور مهم يزيل الكثير من الشك وعدم اليقين الذي يستغله المضاربون، فحجم الإمدادات سيبقى ثابتاً تقريباً، مع زيادات متوقعة في حجم الطلب القادر على امتصاص أية زيادات قد تأتي من إعادة تصدير النفط الإيراني وزيادات طفيفة في إنتاج كل من روسيا وكازاخستان، وكذلك تخلي المملكة العربية السعودية تدريجياً عن تخفيضها الطوعي البالغ مليون برميل يومياً، والذي ربما يؤثر مؤقتاً، إلا أن الأسواق سرعان ما ستستوعب هذه الزيادة التي أخذت بعين الاعتبار أثناء صدور قرارات «أوبك+» الأخيرة. وبعيداً عن أية تطورات جيوسياسية أو كوارث طبيعية قد تحدث، فإن مؤشرات أسعار النفط تشير إلى توقعات تصاعدية في الفصل الثالث من العام لتقترب من 70 دولاراً للبرميل، وربما تتجاوزه في فترات ذروة الطلب، إذ أصبح من شبه المؤكد فعالية اللقاحات في تراجع «كوفيد-19» ومحاصرته في الأشهر القادمة، مما يعني عودة العديد من الأنشطة الاقتصادية، وكذلك الإصرار الذي تبديه دول مجموعة «أوبك+» في الالتزام بحصص الإنتاج، والذي تجاوز 100% خلال شهر فبراير الماضي، خصوصاً وأن معظم هذه الدول أصبحت تستوعب معادلة النسبة والتناسب بين حجم الإنتاج ومعدلات الأسعار بصورة مهنية وبعيداً عن التجاذبات السياسية المضرة لكافة البلدان، مما يعني أن هذه الدول أصبحت تغلّب مصالحها الاقتصادية على خلافاتها السياسية، وهو تطور نوعي يعكس مدى النضج الذي وصلت إليه المجموعة.

*مستشار وخبير اقتصادي