استكمالاً لموضوع الأسبوع الماضي بعنوان «التموضع الأميركي في الشرق الأوسط» لم نتفاجأ باتفاقية التعاون التي تم توقيعها السبت 27 مارس 2021 بين الصين وإيران، والتي تُشير شكلياً إلى وجود شراكة استراتيجية بين البلدين، لكنها على أرض الواقع، تُعد أولى نتائج الصراع القديم الجديد في الشرق الأوسط بين أميركا والصين، حيث قررت الأخيرة التحرك بعدما لم تتحرك أميركا سريعاً لحسم موضوعاته، فكانت إيران أولى محطاتها.
الاتفاقية الصينية الإيرانية لها دلالات متعددة، فالوجه الأول دبلوماسي اقتصادي موجه للداخل الإيراني والصيني للاحتفال بذكرى خمسين عاماً على العلاقات الصينية- الإيرانية، والوجه الثاني موجه للجانب الأميركي الذي بدأ عام 2021 متباطئاً في تحديد استراتيجيته النهائية بخصوص الشرق الأوسط، ففتح الباب على مصراعيه لإحياء تلك الاتفاقية التي بدأ الحديث عنها في عام 2016، ولكنها ومنذ انتخاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بقيت حبيسة الأدراج، فرغبت الدولتان، الصين وإيران، على استعجال هذا التحالف الاستراتيجي أملاً في دفع الإدارة الأميركية الجديدة للمزيد من الإضطراب والتخبط في منطقة الشرق الأوسط.
في عام 2014 قُدّر حجم التجارة بين الصين وإيران بحوالي 51.8 مليار دولار، لكنه تراجع في عام 2020 إلى 16 مليار دولار، لذلك تتحدث اتفاقية «طريق الحرير الجديد» بين الصين وإيران عن استثمارات بقيمة 400 مليار دولار أميركي، وبالاضافة إلى النفط والتعدين والتجارة والنقل والزراعة هناك حديث حول الامتيازات الصينية في البنية التحتية الإيرانية والمجال العسكري والمطارات والموانىء، وتعد هذه الاتفاقية ثاني اتفاقية لإيران مع قوة عظمى منذ العام 2001 حين وقّعت إيران وروسيا اتفاقية تعاون في المجال النووي، والتي تم تمديدها مرتين لتصل إلى 20 عاماً.
الوجه الثالث يثير التساؤل حول البراغماتية الإيرانية، تلك التي عملت طوال أربعين عاماً على تصفية اليسار الإيراني، وحاربت اليسار الروسي، وصممت لنفسها يساراً شائكاً يلتقي مع «الديمقراطيين» الأميركيين واليسار الأوروبي والفنزويلي والبرازيلي وغيره، والتي لم تجد حرجاً في إظهار الوجه الآخر لهوية الايديولوجيا الملالية اليمينية المتطرفة بالجلوس في حضن اليسار الصيني، الذي يعتمد أيضاً في تمدده ليس على الجانب الاقتصادي والسياسي فحسب بل على الترويج لنجاح مشروعه الإيدولوجي القائم على الاشتراكية في مواجهة النموذج الأميركي الرأسمالي.
هل ما يحدث في ايران اليوم يُصنف تحت قائمة «الانتهازية» أم «التسليم»؟ لا شك أن العقوبات الأميركية خلال عُهدة الرئيس ترامب والخروج الأميركي من الاتفاق النووي وثقل فاتورة تصدير الأزمات وتمويل وتسليح الميليشيات في العراق وسوريا واليمن ولبنان وكذلك الانهيار الاقتصادي والإجتماعي الإيراني وتراكمات الشعور بالإهانة لمقتل قاسم سليماني، قد دفعت كلها النظام الإيراني إلى الزحف نحو أقصى «اليسار» الشرقي، فدخلت إيران مجبرة قلعة التنين الصيني باعتبار أن «الغريق لا يخشى البلل»، متجاوزة الشعارات التي تروج لها الثورة الإيرانية داخلياً، ودون موافقة شعبها خاصة ونحن نعلم أن الرئيس الإيراني السابق محمود نجاد، قد ندد في يوليو 2020 بالمفاوضات الجارية لإبرام اتفاق جديد مع «بلد أجنبي» لمدة 25 سنة، وصرّح بأنها مفاوضات تجري من دون علم الشعب الإيراني!
اعتقد أن الذي يسمح لإيران أن تتقرب من الأيديولوجية الصينية البعيدة، سواء بدافع «التسليم» أم «الانتهازية»، سيسمح لها بصورة أكبر أن تقترب من «الساحة الإبراهيمية»، بضع خطوات، وسيكون المبرر والدافع أكثر عمقاً ووضوحاً لاعتبارات ثقافية وأخرى جيوسياسية واقتصادية وأيديولوجية، وسيضعها ذلك، هذه المرة، ليست في موقع التابع المستسلم بقدر أن تكون شريكاً في العالم الجديد، الذي سيعيد توزيع القوى العالمية، وسيكون الشرق الأوسط، خلال العشرين عاماً القادمة، وجهة عظمى تنطلق من أرضية السلام والتسامح، الذي بدأته الإمارات نحو التنمية المستدامة والأمن والاستقرار الذي تصبو إليها شعوب المنطقة.
ليس هناك ما يمنع أن تكون الصين، الدولة الصديقة الشريكة، حليفاً قوياً لدول الشرق الأوسط، سواء أكان ذلك في حضور أم غياب الجانب الأميركي والأوروبي، ولكن الرؤية المشتركة الواضحة لجميع دول الشرق الأوسط يجب أن تكون قائمة على وحدة المصالح الاستراتيجية والأيديولوجية التي تضمن المستقبل بضمان عدم وقوع صراعات وحروب كالتي نراها اليوم في اليمن أو سوريا، وألا تكون هذه الساحة أيضاً مسرحاً لنزاعات بين قوى عالمية أخرى، اختارت التموضع في الشرق الأوسط.