يستقر في ذهني مشهدان من أيام إقامتي في أبوظبي لسنوات أربع أواخر تسعينيات القرن المنصرم وبداية قرننا الراهن. الأول ذلك الذي كنت أراقبه من شرفة شقتي، فأرى بيتاً قديماً يُسمى «شعبية»، يسكنه باكستانيون، عرفت أنهم سائقون، يعيشون جماعة في هذا البيت البسيط، وتمضي حياتهم كأي «جماعة» أو «مجموعة»، أو حسب التعبير المتداول في التاريخ السياسي «كميونة»، يقسم بينهم العمل والرغيف والأَسّرة الرخيصة التي تستريح عليها أجسادهم المكدودة بعض الوقت.
كان حارس العقار الذي أقطنه، من بني جنسيتهم، فأخبرني بما هم عليه. فعرفت منه أنهم يوزعون ساعات نومهم على مدار اليوم، ثلاثة على كل سرير، لكل واحد ثماني ساعات، ثم ينهض لعمله ويترك مكانه لغيره.
كانوا ثلاثين رجلاً يعيشون في حال أشبه بالكيانات الاشتراكية الخيالية، التي قرأت عنها في كتب السياسة والتاريخ والأماني، لكنها حدثت أمامي دون افتعال، ولا أيديولوجية بائسة، فالسائقون، قرروا أن يجمعوا أجر ثلاثة من بينهم، واحد يطبخ لهم، والثاني ينظف المكان، والثالث يدير علاقتهم بكل مكان أو أحد آخر، على أن يوفروا لثلاثتهم مبيتاً لديهم، وبهذا استقامت حياتهم، وسارت على نحو منتظم، فكنت أنظر إليها في تعجب، وأتمنى لو كنت واحداً منهم، حتى يكون بوسعي أن أعرفهم عن كثب، أكثر وأكثر، حتى يكون باستطاعتي أن أكتب رواية عن هذا المجتمع الاشتراكي في زمن ما بعد انسحاق الاتحاد السوفييتي، وفي بلد مربوط أكثر بالاقتصاد الرأسمالي. 
رحت أراقب البسطاء الذين يعيشون قبالتي في بيت خفيض يسبق صفوفاً من الفيلات الأنيقة، ولا يبعد كثيراً عن مستشفى مفتوح لهم بالمجان.
ما رأيته في هذا البيت هو وجه واحد لتعددية عاشتها أبوظبي، ولا تزال، سنين طويلة، حيث مختلف الأجناس والثقافات. نعم كانت «الشعبية» يقطنها بعض الباكستانيين، لكن هؤلاء كان عليهم أن يتعاملوا مع أبناء جنسيات أخرى من أصحاب مختلف المهن الذين توزعت محلاتهم أمام مسكنهم في أسفل البنايات التي واجهت الشارع الذي يعيشون فيه.
رأيتهم يخرجون صباح مساء على وجوههم تحفز شديد للعمل، واطمئنان إلى أن مآلهم في نهاية النهار هو الراحة في هذا البيت الذي ترفرف فوق سطحه ملابسهم في الشمس القادحة والهواء الساري المتدفق من فوق أشجار وبسط النجيل في حديقة «الخالدية».
لم أشعر أبداً أنهم غرباء هنا، فوجودهم في مكان واحد أشعرهم بالدفء، والمدينة التي فتحت لهم ذراعيها احتضنتهم بلا تفرقة، وهم اطمئنوا إلى القواعد التي تحكم ما بينهم، وتحدد علاقتهم بما ومن حولهم، فأخلصوا لهذا التجمع الجميل الذي حوى كل هذه الأجساد والآمال والتطلعات، التي كانت هشة، ثم لم تلبث أن امتلكت قدرة على البقاء والاستمرار في الكدح.
أدركت بمرور الوقت أنهم ليسوا سوى تجمع من ضمن تجمعات أخرى موجودة في هذه المدينة، بوسعها أن تفعل ما شاءت، طالما أنها لا تخالف القانون. إنها تعددية التجاور، التي قد لا تسمح بالامتزاج والتفاعل المتناهي، لكن السياق الذي تتحرك فيه، والقوانين التي تحكمها، وطبيعة البيئة الاجتماعية، تسمح لها بهذا الوجود، وهذه الأدوار.
ولم يمض وقت قصير حتى رأيت المشهد الثاني في دبي، حيث وجدت التعدد قائماً، فالمدينة، بدت لي، بعد عدة زيارات لها دققت فيها النظر إلى أحوالها الاجتماعية والثقافية، مختصر المجتمع العالمي، في أيامه الراهنة، وهو ما يرتب على من يتدبر أحوالها ضرورة أن يتفهم كل هذا التنوع الرهيب، ويدرك مدى ملاءمته للحال، وما قد مضي، والمآل، وأن يبذل كل جهد في سبيل أن يعين الآخرين على العيش.