لا يمكن القفز على مقتضيات تاريخ يبين بجلاء أن المجتمعات تمضي دوماً نحو «الدولة الوطنية» متخففة من القوميات والإمبراطوريات، وما صاحبها من شعارات طالما استغل البعض ضجيجها في التعمية على حقائق التطور التاريخي، لكي ينفرد مستبدون بشعوب حالمة، ويعصروها، ويشربوا دمها الزكي، لإطالة أعمار نظمهم التي نسيت دورها، وظنت أنها قد صارت آلهة من دون العلي القدير.
الحقيقة أنني لا أتوقف هنا طويلاً أمام الأناشيد والأغاني القومية وكل ما قيل بعدها، إنما أخذني أكثر ما رأيته من مناظر، وما خبرته من تدابير، ففهمت، دون افتعال ولا انفعال ولا ادعاء، أن الذي يؤكد أي روابط بين الناس، ليس الدعايات الصارخة التي يزعق بها الإعلام، ولا تصريحات وبيانات الساسة التي يريدون بها، طوال الوقت، مزيداً من الاستعلاء والهيمنة، إنما هو ما يفعلونه طواعية، كما تتمايل قليلاً فروع الشجر الباسق في النسيم، وتبتل الأرض لسحب سوداء حبلى بماء منهمر، ويستوعب الدرس كل من فتح صدره للعلم دون افتئات.
والحقيقة أيضاً أن كل شيء يصبح مختلفاً لمن تأخذه المناظر الخلابة الموزعة بين الطرق السريعة في المغرب، أو من يرى النيل بكراً في السودان، ويطفو فوق الماء سابحاً على ظهره دون أن يغطس في البحر الميت، ويرى الشوارع الخلفية لقاع المدينة في المنامة، أو يسأل عن النقطة التي بدأت منها مدن مثل أبوظبي أو يسأل عن الوجبة الشعبية في الكويت أو يسأل عن أصل المتاهة في بيروت، أو يرى الجبال المتجهمة والبيوت الخفيضة خلف الحرم العظيم في مكة، والأبراج الشاهقة في دبي، والقصر القديم مطعّماً في مكناس، والبيوت التي قدت من جبل في صنعاء.
إنها كل ما رأيته في بلاد العرب، وهو كاف لي، إلى جانب ما قرأته، فأنا رأيت شوارع سوريا في روايات حنا مينة، وعشت مع الطاهر وطار أيام الدم والتمرد في الجزائر، ووقفت على باب تونس مع المسعدي، وسمعت وجيب قلوب رهائن اليمن مع زيد مطيع دماج، وسحت في صحراء ليبيا بحثا عن الغزلان الشاردة مع إبراهيم الكوني، وسمعت الترديد المستقيم للقصائد مع الموريتانيين، بلد المليون شاعر، وبحثت عن نور فرح الذي هاجر وهرب شوارع الصومال، وخطفني من كل شيء العراقيون بدر شاكر السياب ومحمد مهدي الجواهري وفؤاد التكرلي وعلي الوردي.
كثير من هذا عشته بين السطور، وبعضه رأيته ماثلاً أمام عينيَّ، كما أرى وجهي في مرآة مصقولة، لكني حين يوهن العظم مني، ويشتعل الرأس شيبا، لا أعرف ما رأيته رؤى العين، وما تراءى لي في سطور الكتب، لكني، بمرور الزمن، لم أعد مهتماً بمعرفة الفارق بين الحالين، وأنا الذي عشت حياتي موزعاً بين الواقع والخيال.
لكن حين يعدني الواقع بأن يكون أجمل من الخيال فليس أمامي من سبيل سوى الامتثال لهذا الوعد حتى لو كان مجازاً، وحتى لو اختلط الأمر عليًّ، فلم أعرف من أين أبدأ، وما الذي بوسعي أن أفعله مع بلاد زرتها وعشت أحياناً بين ناسها، دون أن أشعر أبداً، أنني مجرد سائح، ليس عليه سوى أن يصف ما يراه كأي سائح غريب، وبين تلك التي وقرت في نفسي حتى ظننت أنني زرتها بالفعل، وعشت بين أهلها. وفي الحالين يمكنني أن أقول إن ما يجمع الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، شيء آخر إلى جانب اللغة.