السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

بريدٌ عابر

بريدٌ عابر
15 مارس 2021 00:39

كانت الرسائل دافئة، تفتح نوافذ الدهشة، ترسم ابتسامة فرح، تستفز دمعة اشتياق، رائحتها زكيّةُ ومُلهمة وحالمة، رائحتها مزيجٌ من حبرٍ وعطر وأصباغ ارتحالات، على طرف أوراقها ينثر العشاق شيئاً من عطورهم ويبثون لواعج قلوبهم، وكأن المُتيّم منهم يتوقع من المُستقبِل أن يطبع قبلة امتنان ولهفة ما أن تلمس رائحة العطر حاسة الشم عنده، الرسائل كانت تتأخر وكانت تتعثر، وبعضها كان يصل قبل أوانه ليبعث فرحة في قلبٍ ملأ الصبر زوايا روحه لشدة ما انتظر.
كانت الرسائل تحمل قوانينها الخاصة، بدءاً من الاستهلال وحتى الخاتمة، وكأنها معلقات الشعراء في استهلالاتها، وتلك الموسيقى المنبعثة من عمق النص تذهب بك إلى حيث المكان والزمان والوجوه والمواقف، والتفاصيل الصغيرة التي ما انفكت تغادر ذاكرتها المُنتشية بحالة العودة إلى ما مضى بإرهاصاته وحوادثه ونتائجه، لكنه يبقى الأجمل، ربما لأنها الأقرب والأصدق، والأكثر إدهاشاً وأثراً.
والبريد ذاته، ذاك الصندوق المخبأ في جدار كلاهما في حالة انتظار، متى امتلأ الصندوق شعُر بالاكتفاء وبأن رسالته الإنسانية قد بدأت، فهو يحمل بين جنباته خلجات قلوب، وجنون لحظات، ومشاعر فيّاضة، أخبار يضج بها عبر تلك المظاريف التي دُسّت فيه في حالة توحد، وكأنه جمع العالم كله في جوفه، ولما أن تحين لحظة إفراغه، يعود والجدار إلى حالة التوجس والانتظار ليُعبّأ من جديد بمشاعر، ومواقف، ووجوه تقبع في عزلتها بداخله، إلى أن تلتقي عينا قارئٍ ينتظر في لهفة التقاط ظرف بريدي بطابع مميز يصله من جهةٍ ما تمثل له حالة انتظار خاصة.
كانت الرسائل بمظاريفها مختلفة الأحجام والأشكال والطوابع والألوان، حالة من العشق عند الذين اتخذوها هواية لا يطيقون صبراً عنهم، فمن خلال هذه الهواية تتجلى شخصياتهم، وتتبلور اهتماماتهم، تنتقل هواجسهم ويشاركون بهواياتهم مُهتمين آخرين في مناطق شاسعة من العالم، ولا عجب أن تفتح صفحة التعارف في المجلات الأسبوعية أو الصحف اليومية آنذاك لتجد غالبية الصور تحمل في خانة الهوايات كلمة «المراسلة»، ومنهم من يتخصص في نوعية المرسل إليه، وكان عادياً جداً أن يطلع عليك «حبّيبٌ» من طراز نادر يضع تحت صورته جملة «الهواية مراسلة الفتيات فقط».
كلّ شيءٍ كان حلواً وجميلاً وقريباً من القلوب، تلك الرسائل العابرة كانت تحمل في طياتها أجمل المشاعر، وأصدق المواقف وإن صعُب بعضها أو كان قاسياً على المُرسل إليه، الرسائل في وقتها كانت وسائل المحبين والعشاق والمغرمين، والحالمين بالحياة الأعذب، رسائل اليوم باهتة وباردة، وسريعة العطب.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©