هل بوسع أي عربي أن ينسى لبنان في محنته الراهنة؟ إنه السؤال الذي يحلو لنا جميعاً أن نطرحه، ونرى في ظلاله كل شيء عن هذا البلد الغريب البديع، الموزعة أحواله بين كل شيء، حتى ندرك أنه يمثل العرب جميعاً، في جدهم وهزلهم، في تفريطهم وصرامتهم، وفي لامبالاتهم واعتقادهم بأن الحياة كلها لا يمكن أن تمضي إلا مع السلاح.
إن لكل عربي علاقة ما بلبنان، سواء في بهجته، أم إبداعه أو صرامته، فهذا البلد الصغير، المبدع المعجز، الضعيف في قوته والقوي في ضعفه، ظل طوال الوقت شيئاً ذا قيمة عالية في حياة أي عربي يتابعه، سواء كان مهتماً بالفن أو السياسة أو النضال أو الموضة، أو لا يهمه سوى البحث عن أناس قادرين على محبة الحياة في ركام الموت، ولديهم استعداد للموت في سبيل الحياة.
كنت أعرف هذا قبل أن أرى لبنان، للمرة الأولى، فقد سبق لي أن كتبت دراستين في شبابي، واحدة عن النخبة السياسية وأخرى عن مجلس النواب، وتمهلت في الدراسة إلى درجة أن ما ذكرته ونشرته صار مقبولاً إلى حد بعيد في صحف لبنان نفسها، فنشروه من وراء ظهري.
لا أعرف ما دفعني إلى اختيار لبنان من بين كل الدول العربية للدراسة في مؤتمرات متعاقبة لشباب الباحثين في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، في أوائل تسعينيات القرن العشرين، لا أعرف حقاً، لأنني لا أتذكر أن شخصاً ما كلفني بدراسة لبنان على هذا النحو، لكن صورة هذا البلد الجميل التي استقرت في نفسي مع أغاني فيروز، وكثير من الأفلام المصرية التي تم تصويرها بين شجر الأرز والجبال والسهول والصخور والبحر والخطر والدهشة جعلتني منشغل به.
في تاريخ العرب الحديث كان للبنان مكانه، ولا يزال، إذ طالمنا اعتبرناه رئة لمن لا يقدرون على التنفس فكراً في بلادهم، ولهذا استجاب نجيب محفوظ سريعاً لمن أخبره أن روايته «أولاد حارتنا» لا يمكنها أن ترى النور إلا في بيروت، وقبله وبعده، نشرت كتب كثيرة «هناك»، فصار لبنان هي «هنا» بالنسبة لكثير من الكتاب والباحثين، الذي يرون أن ما تسمح به بيروت، لا يمكن لغيرها أن يتركه يمر.
لكن قدرة لبنان على أن تكون كذلك ليس أمراً قد قرره أحد أو صنعه موقف عابر، إنما هو طبيعة بسيطة متأصلة في البلد، يظن الذين لا يعرفون تاريخه وسمات مجتمعه وصفات أهله جيداً، أنه أمر غريب، ولا يمكن لأحد أن يقبله إلا على سبيل الانتفاع.
ربما يفهم اللبنانيون أن هذه الخصال لأنفسهم، أو لطبيعة بلدهم، لكنهم لا يدركون، أو ربما يدركون، أن لهم حضوراً مختلفاً في نفوس كل العرب، لا يمكن أن ينازعه أحد، مهما أوتي من مال أو نفوذ سياسي أو رسوخ حضاري.
لهذا غضب العرب جميعاً حين وقع لبنان في حرب أهلية استمرت أربعة عشر عاماً، وتعاطفوا معه شديداً حين تعرض لضربات من إسرائيل، ورأوه متألقاً في قدرته على التصرف وكأنه بلا وجع ولا ديون ولا مخاوف من خذلان الأشقاء وقسوة الأعداء، وعولوا عليه، رغم ضعفه، في أنه قادر على أن يصنع شيئاً مختلفاً.
هذه الروح يدركها، لأول وهلة، من يزور لبنان، حين يرى وجوه الناس، وينصت إلى حديثهم، حتى لو لم يكن قد عرف شيئاً عن تاريخ البلد، أو قرأ شيئاً في علم الاجتماع عن خصائص ناسه. إنها روح الذين يحبون الحياة إلى أقصى حد، ويرى بعضهم أن الموت في سبيل العيش حياة. إنه قد يبدو تناقضاً في نظر بعض المتعجلين، لكنه حياة في نظر الراسخين في المعرفة، حتى لو كانوا يؤمنون بحق أن رهن إرادة لبنان الجميل ليصبح مجرد ورقة في طرف أي قوة خارج العرب هو عمل لا جدوى منه أبداً.