الناظر للأوضاع في العراق ما بعد 2003 وتطوراتها المستمرة باتجاه الطائفية والأصولية والإرهاب، يدفعه ذلك لشيء من اليأس، خاصة أن الصراع السياسي بين الولايات المتحدة الأميركية وخصومها هناك يبدو وكأنه يميل لأولئك الخصوم.
زيارة البابا فرنسيس للعراق تاريخية بكل المقاييس، إنها رسالة السلام في زمن العنف، ورسالة التسامح في زمن التعصب، وتذكير بعراق التاريخ والحضارة والتنوّع، لا عراق الكراهية والطائفية والإرهاب، وعودة هذا العراق الجميل ليست مستحيلة، وإنْ كانت صعبة في ظل كافة التعقيدات السياسية الدولية والإقليمية والداخلية التي لا تسمح بعد بالتسريع بهذه العودة.
قبل عقدٍ ونصفٍ تقريباً زار كاتب هذه السطور حاضرة الفاتيكان في روما، وكان منظراً لافتاً تلك التماثيل الشاخصة على كاتدرائية القديس بطرس لبابوات من عصورٍ مختلفة، فقد كان بعضهم مسلحاً بأسلحةٍ فتاكةٍ وبشعةٍ وهي تكتنز تاريخاً طويلاً مرّ بمراحل من العنف والحروب والتشدد والديكتاتورية، وهذا تاريخٌ معروفٌ، والقصة هنا ليس هذا التاريخ، بل قصة كيف استطاعت الكنيسة تجاوز كل ذلك التاريخ والاستقرار على تمثيل السلام ونشر المحبة بين الناس؟ القصة هنا.
يستطيع العراق بكل أديانه وطوائفه ومذاهبه وأعراقه وتنوعه المدهش والثري أن يتجاوز هذه المرحلة المعاصرة المؤلمة، ويصنع تاريخاً جديداً يعيد إليه مكانته الحضارية وأدواره التاريخية، ويبرز تعاقب الحضارات على أرضه منذ قديم الزمان وتعايش كل هذه المكونات مع بعضها على مدى قرونٍ متطاولةٍ، ويصنع انتقالاً نحو المستقبل، وينبذ العنف والطائفية والقتل والكراهية خلفه ظهرياً.
لكل حضارة سبيلٌ ولكل أمة طريقٌ، وواهم من يريد تعميم نموذج واحد ويزعم أنه صالح لكل الحضارات والأمم، ولئن كان التاريخ لا يعيد نفسه، فإنه خير معلّم يستقي منه الناس الدروس والعبر، ويمكن للعراق وللعرب والمسلمين من خلفهم أن يتجهوا نحو التنمية والحضارة والعلم والسلام، بدلاً من العنف والدماء.
لقد مرّت أوروبا والدول الغربية بقرونٍ من الحروب والصراعات والدماء والأشلاء حتى استوت على واقعها المعاصر اليوم قائدة للحضارة الإنسانية ونبع تنويرٍ لا ينضب ومصدر علمٍ لا ينقضي، ويخطئ كثيراً من يريد نقل نتائج قرونٍ من الحراك التاريخي في سنواتٍ معدودةٍ لحضارة أخرى تختلف في سياقاتها وطبيعتها والتحديات التي تواجهها عن أوروبا وتاريخها.
قبل عامين، وقّع هذا البابا بنفسه في أبوظبي على «وثيقة الإخوة الإنسانية» مع شيخ الأزهر، فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيّب، وها هو يزور بالأمس المرجع الشيعي الأكبر السيد علي السيستاني في مدينة النجف، اعترافاً بما يمثله السيد السيستاني من مرجعية معتدلة تقليدية لا علاقة لها بتنظيمات الإسلام السياسي وتوجهاته، واعتراف بأتباعه المسالمين بعيداً عن استخدام المذهب الشيعي الكريم في صراعات السياسة أو تحويل الطائفية إلى سلاح سياسيٍ قاتلٍ.
التناقض بين ما يمثله بابا الفاتيكان وما يمثله العراق في هذه اللحظة من تاريخ البشرية صارخ، ولكن العراق قادر مع شدة أزماته وصراعاته والتدخلات في شؤونه أن يرسل رسائل الأمل والسلام والمحبة.
مذ كان البشر كان الصراع، بين الخير والشر، بين السلام والحرب، بين التسامح والتعصب، فثمة طريقان للبشر، إما التعايش والتسامح، وإما الحروب والكراهية، والسلام خيار العقلاء وعكسه طريق المتطرفين المتشددين الدمويين، ومما تدفع زيارة البابا باتجاهه أن يتساءل الناس: أي الطريقين أسلم وأكثر فائدة للبشر، لا مجرد تساؤلٍ عابرٍ، بل تساؤل عميقٌ يدفع لقراراتٍ مصيريةٍ في حياة الأفراد والمجتمعات.
أخيراً، فنشر الشر سهلٌ وتبنّي الكراهية والعنف والإرهاب لا يحتاج لمزيد عناء، فالهدم لا يكلف شيئاً بعكس البناء، بينما نشر السلام والمحبة والتسامح والتعايش يحتاج لجهدٍ وعملٍ دؤوب لا يكل ولا يمل، والخيارات مفتوحةٌ.