لا شيء جميلاً يسري في البدن عافية ويملأه حبوراً، متتبعاً نسق الروح كفعل خير لا تنتظر منه غير فرحة تدغدغ الصدر، وسعادة تستقر عند الطرف الآخر، وقد يكون لا يعرفك، ولا أنت تعرفه، ولا تنتظر منه كلمة الشكر، هكذا هو سر الخير، دائماً ما يقرن بالسماء، وما تغدق من بشائر وهبات، وما تنبت الأرض من خيرات، وما يجعل الإنسان يرفرف وحده بأجنحة لا تحدها المسافات، فقط لأنه صنع خيراً ولم يتذكره، صنع فرحة، ولم يتبعها أذى، صنع سعادة كبيرة بفعل صغير، وزائد عن حاجته، لكنه كعصفور من الجنة أتى حاضراً بنسائمها، فكفكف دمعة، وأثلج صدراً، وشرّع آفاقاً للذين قلوبهم ضاقت، وعيونهم كاد أن يكسرها الضعف، هكذا عرفت العين وأهلها المرحوم «أحمد بن محمود» رجل خير، وروح طيبة، ويخدم الجميع، رجل من زمن جميل، ولعله آخر الراحلين، فلم يعد من رجال ذلك الوقت إلا القليل، وهم اليوم في خريف أعمارهم، لكنهم يظلون مثلما تُظل البركة الأمكنة، ومثلما يبقى الخير يحرس الحياة.
عرفت المرحوم «أحمد المحمود» صغيراً، حينما كان يعمل مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» في قصر العين، وظلت صورته باقية لا تكبر في الرأس، رغم أننا كبرنا، ومرات كان يتراءى لي وهو يغدو بسيارته ماراً بجانب بيوت الأهالي بعقاله المفتول، أما ذكره عند الناس، فكان لا ينقطع، لأنه كان همزة وصل بين الأهالي، وبين المغفور له الشيخ زايد، فيما يخصهم، وفيما يواجهون، وفي كثير من شؤونهم، إذ كان يقصده الجميع، وفي كل الأوقات، ولا يكتفي فقط بالعين، وإنما للمناطق المجاورة، فسمعته تسبقه، وصدقه وأمانته يتبعان خطوه.
ولعل مما أذكر من مواقفه، حينما التقى بأبي بعد سنوات من حادثة بسيطة جرت لهما في بداية الستينيات، وهما يتضاحكان عليها الآن، حيث في بداية الستينيات لم تكن هناك شوارع مسفلتة في العين، لأن السيارات التي فيها قليلة جداً، والذين يسوقون سيارات يعدون على الأصابع، ولم تكن هناك رخص للسواقة أصلاً، ولا تأمين على السيارات، ولا رخصة للسيارة المملوكة، ولا تعليم محترف على السياقة، «شوابنا» وسواقتهم لولا «الجيبات» الأوليّة، وإلا لا سيارة تتحمل سياقتهم، لأنهم تعلموا بأنفسهم، كانت الدنيا بسيطة، والحياة فضاء مفتوح، وتصادف في نهار كان أبي يسوق سيارته «الجيب لاند روفر»، و«أحمد بن محمود» يسوق سيارته «الصالون» الأميركي الطويل، وكانا كلاهما ذاهبين إلى قصر الشيخ زايد حيث يعملان، وفي تلك الطريق الخالية، والواسعة وقبل أن يصلا القصر بأمتار، تصادمت السيارتان، وكانا لوحدهما في تلك الطريق غير المعبدة، فحدثت أضرار بسيطة بالسيارتين، ودخلا على الشيخ زايد كل واحد يشكو ربيعه أنه هو الذي كان الغلطان، ولم ير سيارة الآخر، فاعتقد الشيخ زايد «رحمه الله» أنهما تصادما في سوق العين المكتظ، وحين أخبراه أن الحادث وقع قبل «ليوان دروازة القصر»، ضحك الشيخ زايد، وقال لهما: والله قصرتو، لو تداعمتو داخل الليوان أحسن لكم «وطلب منهما كل واحد يصلح سيارة «خويّه»، فقال أبي: طال عمرك أنا سيارتي جيب ما يعول، وأقدر بروحي أحدده، بس سيارة بن محمود من الغاليات، وأنا ما اروم أصلحها، إلا إذا صلحتها وبادلني بالجيب، فاله طيب.. وطاحت الحِيّه»!
رحم الله الجميع، ورحم وقتهم الطيب، ووطرهم الذي مضى، فقد كانوا زينة المكان، وعطر العين، وإن رحيل أي منهم يدمي القلب، ويعطب الذاكرة، فقد عاشوا طيبين.. ورحلوا بخيرهم.