أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 1980، قال الرئيس ريغان في حشد من مناصريه: «لقد زارني الرئيس كارتر في المنام وسألني، لماذا تريد وظيفتي، فأجبته: أنا لا أريد وظيفتك، أنا أريد أن أكون رئيساً». يسجل للرئيس ريجان دوره التاريخي في إسقاط الستار الحديدي، وتفكيك الاتحاد السوفييتي، إلا أنه فشل في ما عجز عنه الرئيس كارتر، أي وضع أسس التعامل مع النظام الثوري الجديد في طهران. والحُقبة الريغانية هي من أسس لمبدأ الاحتواء عبر مهادنة طهران الجديدة وبأكثر من شكل، ويعد تمكين التيارات الشيعية المسلحة في لبنان أحد أخطرها، وقد كان ذلك ضمن مفهوم ضرورات التحجيم المكاني لكل ما تمثله الفصائل الفلسطينية سياسياً وعسكرياً من المنظور الأمني الإسرائيلي.

الإدارات الأميركية المتعاقبة، فشلت في تطوير مفهومها المستقل لأمن الشرق الأوسط لارتكازه على أمن إسرائيل أولاً، لذلك نجدها فاشلة في تحديد استراتيجية قابلة للاستدامة ضمن التوافق النسبي بين مفهومي احتواء إيران الثورية وطموحها التوسعي. في حين وظفت طهران القنوات السرية في ما عُرف لاحقاً (إيران كونترا غيت)، بمثابة اعتراف كلٍ من واشنطن وتل أبيب بالنظام الجديد، واستحقاقات تحجيم نظام صدام حسين وبشروط تناسب الجميع. والنقطة الأخيرة كانت المدخل لتطوير مفهوم التوازن الطائفي سياسياً في الشرق الأوسط لاحقاً، وبتوافق واشنطن وتل أبيب ضمن ما أسس له زبنغيو برجنسكي، والذي طور لاحقاً ليُعرف في صيغته النهائية (الشرق الأوسط الجديد)، والذي احتاج إلى الفوضى الخلاقة مدخلاً. 

يقودنا ما تقدم للقراءة في الملف النووي الإيراني من منظور واشنطن لمصالحها الاستراتيجية، لا علاقاتها التاريخية مع دول الخليج العربية. ففي حين تبنت إدارة ترامب سياسة «الضغط الأقصى» مع طهران، نجد إدارة بايدن تعتمد سياسة «الدبلوماسية القصوى»، وذلك تدليل على غياب استراتيجية احتواء حقيقية قابلة للاستدامة أميركياً. وتعد التصريحات الصادرة عن وزير الخارجية «بلينكن»، بأن طهران على مسافة أسابيع من حيازة قنبلة نووية، كان فقط لتذريع تسريع الانخراط في حوار مع طهران. إلا أنها هي من رفض الاشتراطات الملحقة بالحوار مع واشنطن، مع استعداد الأخيرة قبول شرط طهران التخلي الضمني عن إشراك أطراف خليجية في المحادثات، أو ربما تحجيم تلك المشاركة.
طهران تدرك أن تخليها عما يمثله برنامجها النووي يعني اعترافها بأمرين، تخليها عن الاستحقاقات السياسية التي تحصلت عليها الثورة (مصالحها الجيوسياسية ومن ضمنها الوصاية الشيعية)، أما ثانياً، فهي استحقاقات تصالح العالم مع المظلومية التاريخية للشيعة.
إدارة بايدن تدرك أنها إنْ فشلت في إعادة المسار في الشرق الأوسط لما قبل واقع المواثيق الإبراهيمية، فإنها ستواجه باستنفاد جهدها الدبلوماسي مع طهران دون التوصل لما وعد به الرئيس بايدن ناخبيه في 2020، مما قد يقلل من حظوظ إعادة انتخابه في 2024. كذلك، بعد زوال أعراض الجائحة، فإن إدارته ستواجه بتحديات التعافي الاقتصادي، ناهيك عن تبرير كلفة ذلك.
الذاكرة الأميركية ستبقى قصيرة، بمقدار ذاكرة سمكة في ما يخص أخطاءها السياسية داخلياً وخارجياً، إلا أنها بمقدار ذاكرة الفيل عندما يتعلق الأمر برغبتها في توزيع الشرق الأوسط بين الطوائف، لذلك علينا ألا نتخلى عن رؤانا الوطنية والتنمية الاستراتيجية مهما بلغت التحديات، ويجب ألا نقبل بالتعدي على مكاسب المواثيق الإبراهيمية لما تمثله من اتصال بمستقبل الشرق الأوسط وليس حاضره فقط. وعلينا اعتماد دبلوماسية يكون فيها للرأي العام حضور. 
* كاتب بحريني