اليوم الشحاذون في كل المدن الذين تلتقيهم أو يعرفون هم كيف يصلون إليك، ويتصلون بك حتى، لم يعودوا بحاجة ليكسروا أيديهم ليشحذوا عليها أو يسْرَح الواحد منهم بكم من رأس من الأطفال اليتامى، ليبكي عليهم، ويستدر عطف المارة، اليوم من خلال هاتفه النقال قادر أن يوسع من شبكته العنكبوتية ليمد خيوطها في الداخل، وخارج المياه الإقليمية، مستعينا بالأزمات التي تلم بالبلدان، حيث يعدها من المكتسبات، فكم من هاتف أرّقنا أنصاف الليالي، لنسمع من الطرف الآخر من يبكي بلداً غير بلده، لكنه يدعي، ويرى أنه يدعم حظوظه في اكتساب المال، فيعدد ما تعرضت له عائلته من فناء، وهي في حقيقتها تنعم بالراحة في فناء الدار، فيمطرك بتلك الاستهلالة الاستجدائية: «الله يخليك، ويعيش أولادك، ويطول عمرك، ويبعد عنك أولاد الحرام»! فإذا سمع أنك تريد أن تتبرع ببطانية صوف أو كيس سكر، تجده يسكر خط الهاتف في وجهك، وصادفت في بعض المدن من يستجدي قبل موسم الحج، يريد أن يتوب على يديك، ويترحم على والديك، وأنه من بلد يُحَارب فيه الإسلام، وقد اهتدى، وعرف الحق، ولكنه بحاجة لثلاثة الآف دولار ليرى مكة قبل أن ترمد عيناه، فيعمي عينيك بكذبه، وقلة بخته.
وقد رأيت في مدن أوروبا الكبرى أناساً دجّالين شحاذين، يتظاهرون بالتقوى والصوفية، ويصدقهم كثير من الناس خاصة من الجاليات المسلمة، ولهم أماكنهم التي تشبه الجحور، وفي قاع أماكن المدينة، وتشك أن الواحد منهم يدفع إيجار ذلك المخبأ، مثل هذا مدخله على الناس لباسه الغريب واللافت، وكثرة الخواتم في يديه، والسبح والخرز معلقة على صدره، لا يمكن أن تتصوره إلا متربعاً، «مورّي كوار»، ويتدخن بشعر، ويلامس النساء الجاهلات اللائي يقصدنه للبركة، وطلب النصيحة، هذا الدجّال الشحاذ، ما أن يظفر بك، وتعطيه الأذن السامعة، وبعد البسملة والحوقلة والهلهلة، يناجيك ويكاد أن تخنقه العبرة، ويقول لك: «بالأمس حلمتك، مثل طيف وأنت تختال في حلة خضراء، تحفك ملائكة من نور، وطيور، فنعم البشارة أخي، الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم شفيعك، ومناديك لحوض الكوثر»، فإن كنت تقياً فستنفحه بدولارات خضر، لجمال البشارة، وقد تغطس في وحل هرطقاته، وإن تركته يتجلى في تخرصاته فسيتبعك تأنيب الضمير، وتقول: ماذا لو كان صادقاً!
ومرة في «مترو» باريس، حاولت مع صديقة وكنا غادين إلى سهرة، وبكامل أناقتنا، أن نستجدي في مقطورة القطار من بعض الركاب باعتبارنا عريسين جديدين، ونريد أن نبني عائلة صغيرة مستقرة، فالتفتت العجائز صوب جواهر الصديقة، وكِدن أن يأكلن وجهها، وانبرت العجائز الفرنسيات ذوات الميول اليميني المتطرف، وعيونهن منصبّة على سحنتنا الشرقية، ولا خلّن مسَبة سياسية، ولا تهكماً عنصرياً ما ألقوه علينا ساعتها، الأمر الذي جعل بعض الركاب يشفقون علينا في ذلك الموقف، وكادوا يتعاطفون معنا، وحتى حين أخبرناهم أننا نريد أن نسرق منهم ضحكة في ذلك المساء، دونما أي مقابل، كثير من العجائز «النحيسات» ظللن مصرات أن لا مجال للمزاح في هذه الساعة المتأخرة من المساء، معتقدات أننا نلعب على أوتار قلوبهن الضعيفة.