لا يضيرنا في العالم العربي القول، إن المحرقة التي تعرض لها يهود أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، كانت واحدة من أكثر وصمات العار في تاريخ الإنسانية، بل أكثر من ذلك نقول، إنه يحق للعالم العربي أن يفاخر ويجاهر في هذا الصدد، ذلك أنه حين كان يهود أوروبا يتعرضون لمحارق «أوشفيتز» ومثيلاتها، كان يهود العالم العربي يعيشون أزهى عصورهم في دول المنطقة، وعلى قدم واحد من المساواة مع مواطنيهم من المسلمين والمسيحيين العرب، من غير تمايز ولا محاصصة طائفية، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن يصل بعضهم إلى مقاعد الوزارات، ويتمثلون في كل مناحي الحياة، من اقتصاد، واجتماع، وقد برعوا في مجالات الفنون والمسرح، والقصة هنا تحتاج إلى قراءات موسعة.
كانت الأخوة الإنسانية كياناً قائماً بالفعل، حتى ولو لم تكن هناك بعد وثيقة، مثل وثيقة «الأخوة الإنسانية» الموقعة في أبوظبي يوم 4 فبراير 2019، والتي بات العالم يعتبرها دستوراً إنسانياً معاصراً. ما الذي ذكرنا مجدداً بهذه الأحداث المؤلمة، التي أشرت إليها في مقدمة المقال؟
قبل بضعة أيام، وبالتحديد نهار السبت 20 فبراير الماضي، مضى الرجل ذو الثوب الأبيض، فرنسيس الفقير وراء جدران الفاتيكان، إلى منزل الشاعرة المجرية الأصل، اليهودية الديانة، «إديت بروك»، الناجية من محرقة النازية. هل جاءت هذه الزيارة لتمثل وجهاً من وجوه الأخوة الإنسانية التي اعتبرها فرنسيس إرثه الباقي، في العقول المؤنسنة، والقلوب الخفاقة بالمحبات المستقرة والمستمرة؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، لا سيما وأنها الزيارة الأولى التي يقوم بها خارج حدود حاضرة الفاتيكان، منذ آخر رحلة له إلى صليب سان مرتشيلو وكنيسة القديسة مريم الكبرى، وقد التزم وراء الجدران نحو عام كامل، بسبب مخاوف تفشي جائحة كورونا. بدا فرنسيس أخاً في الإنسانية لجهة الشاعرة اليهودية الديانة، والتي عانت أهوال النازية وهي بعد صبية، وها هي بعد أن رحل زوجها، تبقى وحيدة في التسعينات، وراء أبواب منزلها، تشعر بخوف من الفيروس الشائه، وتنقل صحيفة «أوسيرفاتور رومانو»، الصحيفة الرسمية للفاتيكان قصتها، فيقرأها فرنسيس، ويرى أنه قد حان الوقت للتوجه إليها ومشاركتها ساعة من الزمن علها تخفف الوحدة التي تعيشها، وتشعرها أن هناك أخوة في الإنسانية، لا يمنعهم الاختلاف في الإيمان أو المعتقد، من فرحة اللقاء في الأزمنة الصعبة.
في لحظات اللقاء الأولى أخبرها فرنسيس بأنه جاء ليشكرها على شهادتها التي قدمتها، وفيها تحدثت عن جنون الكراهية الشعبوية النازية، طالبا المغفرة من الله تعالى لمن ارتكبوا تلك الجريمة في حق البشرية.
أخذت المفاجأة بعقل الشاعرة، «إديت»، ولهذا عند استقبالها له علقت قائلة، «لا نكون أبداً مستعدين لأجمل لحظات حياتنا، كما لا نكون مستعدين لأسوأ اللحظات أيضاً»، فما كان من فرنسيس سوى أن أجابها بقوله:«ثم هناك مفاجأة ما ينبع من الداخل، من قلبنا».
في اللقاء تذكرت «إديت»، آلامها وكيف أبعدها أحد الجنود الألمان عن أمها التي سيقت إلى أفران الغاز في «أوشفيتز»، كما تذكرت لحظة أن قدم لها جندي آخر قفازات مثقوبة، إلا إنها كانت ثمينة بالنسبة إليها، ما يعني أن الخير أصيل في الإنسانية رغم الشر الذي يظهر وجهه القبيح أحياناً.
علق «فرنسيس» على رواية، «إديت»، بالقول: «جميعنا إخوة، حتى وإن نسى قليلون هذا أحيانا، كما حدث في القرن العشرين. فرنسيس وإديت..أخوة إنسانية من غير حدود.
* كاتب مصري