في الأسفار الكثيرة نحو مدن العالم ستجد في طريقك فئة من الناس، وإن كان يجمعهم الفقر في الظاهر، غير أنهم مختلفون في الباطن، متفاوتون في الطلب، وأنفة الكرامة، وقيمة النفس، لذا فروقهم كثيرة رغم أنهم على أرصفة المدن قاعدون، الشحاذون ليسوا متساوين، منهم من يعزف على أوتار القلب، ومنهم من يعزف لك بأوتار قلبه، تماماً مثل الفرق بين الشحاذ في الدول المنكوبة، إنه يكسر يده، ويشحذ عليها، أو يربط رأسه من دون وجع، وفي بعض الدول المسحوقة تجده بعد أن باع كليته، يظل يشحذ على ذلك الجرح القديم، وقد ابتلت كثير من المدن بهم، ولا أعرف كيف يصلون إلى تلك البلاد؟ وكيف يحصلون على «الفيزا»؟ تجدهم يلبدون للناس، مرة في هذا الحي، ومرة في حي خارج العاصمة، خاصة بعدما انتهت موضة التبرع لبناء مسجد في «سيراليون»، ومدرسة في «كوناكري»، وبعدما انتهى نشيد أمي وأبي وعمتي وخالتي، وأمراضهم المزمنة، وانتهى موال الشحاذة الصحراوية: «واحد من قبيلتنا، قتل واحداً من قبيلتهم، فقام آخر من قبيلتهم، فقتل واحداً من قبيلتنا»، والآن ينشدون دفع الدية، ودفع البلاء، وإصلاح ذات البين، قاطعين آلاف الكيلو مترات قاصدينك «يا وجه الخير»، راكبين من أجلك «شفرات» تبرّي الصحراء برّياً!
في أوروبا، لولا النازحون واللاجئون والهاربون والمتسولون من رومانيا والغجر، والمدعون من البوسنة، فلن تجد غير المحتاج، والذي ضاقت به السبل، أو من يحمل في داخله فاجعة إنسانية، هو من يشحذ، ويشحذ قوت يومه، رغم أن أوروبا توفر له راتباً قدر الحاجة، وملزمة بوجباته اليومية بـ «كوبونات»، شحاذو أوروبا ظرفاء، وبعضهم نبلاء، يقدم لك ما يملك من موهبة في العزف، والغناء، وخفة اليد، والرسم، أو مما وهب، ولو كانت موهبة غير مدهشة، لكنه يفترض أنه يسلي السياح والزوار والعابرين، ليقدموا له مما تجود به جيوبهم من «فكّة» معدنية، من هؤلاء الظرفاء الذي لا يجعلونك تمر هكذا من أمامهم، دون أن تتوقف أو تتحرك يدك في جيبك بحثاً عن قطع معدنية، شحاذ «لوتي» أو عيّار، عرف كيف يحزن قلوب الأوروبيين الخالية من العاطفة المندفعة، هذا الشحاذ كتب على لافتة أمامه، أنه قد يصبر على الجوع، لكنه لا يريد لكلبه أن يموت من الجوع، فـ «من أجل كلبي، أصلي لكم»، ويطأطئ برأسه، رافعاً يديه للسماء في مشهد تمثيلي ساذج، فيتقاطر الأوروبيون حوله، يواسونه، وينقدونه، ويوصونه بكلبه خيراً، خاصة العجائز اللاتي يقفن بالدقائق الطوال عنده، وقلوبهن تكاد تنفطر، وتظل الواحده تفرك «بوكها» الجلدي القديم، لتظفر بعملة نحاسية، تظل تقربها لعينها وتتفحصها، كان هذا الشحاذ يملأ يومياً صرته نقوداً، والتي كانت أحب شيء لقلبه، ويكره أن يتكرم عليه بعلب أكل الكلاب الغالية! من الظرفاء، عجوز أعمى، لكنه بصير، ونافذ البصيرة، كتب مرة: «ساعدوني.. لأرى الربيع هذا العام»، وآخر فرش كتبه القديمة على الرصيف للبيع، وتركها، وكتب: «القراء لا يسرقون.. واللصوص لا يقرأون»!